تنهيدةُ طفل
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
مركز النور للمكفوفين فُلكُ نوحٍ بالنسبة لكل أعمى؛ لأن منه سيتسنى لكل واحدٍ منا رسم خارطة حياته، وتحديد ملامح مستقبله، بناءً على رغبته وميوله، دونما ضغط أو إكراه من أحد أياً كان، فنحن المعنيون بتحديد ما نريد أن نكون غداً، والمكلفون باختيار دروبنا التي سنسلكها لتحقيق ذلك الهدف وبلوغ تلك الغاية.
صحيحٌ أننا أتينا إليه أطفالاً، لا نكاد نحسن غسل وجوهنا؛ ولكننا كنا نحمل في قلوبنا الصغيرة من المتاعب والمطامح، والأحزان والمباهج، والآمال والآلام، والأحلام والأماني، والانتكاسات والمآسي، الشيء الكثير، الذي لربما عجز عن حمل نصفه أو أقل من النصف الكثير من الشباب المبصرين، ناهيك عن أترابنا من الأطفال حينها. ولقد كان من أقسى ما عانيناه في السنة الدراسية الأولى هو: فراق أمهاتنا، والبقاء بعيدين عن أحضانهن من أول يومٍ دراسيٍ حتى أول أيام العطلة الصيفية. وللقارئ أن يتخيل حال أولئك الأطفال بدون أمهاتهم، كيف سيعيشون؟! ومَن سيهتم بنظافتهم الشخصية ومأكلهم ومشربهم وملبسهم؟! مَن سيعتني بهم إذا مرضوا، ويكفكف مدامعهم إن بكوا؟! مَن سيذهب إلى سرير قرابة ثلاثين أو أربعين طفلاً كل ساعة من ساعات ليل الشتاء القارس، ليغطيهم جيدا؟! لا أحد، فليس هناك سوى أربعة مشرفين (مربين) لدى كل واحد منهم خيزران، أو مسطرة خشبية سمكها أربعة سنتيمترات، وطولها متر ونصف المتر، وعرضها بحجم الكف، يتناوبون على ضربنا كلما ضحكنا بصوت عالٍ، أو لعبنا، أو بقينا نتكلم بهدوء وقد وصلت عقارب ساعاتهم إلى تمام العاشرة مساءً.
أما عن موعد الوجبات في اليوم والليلة فحدث ولا حرج؛ إذ لدى كل واحد منا عند السادسة من صباح كل يوم حبة ونصف من رغيف العيش، مع قليل من الماء الممزوج بنكهة الفول أو الفاصوليا، أو الزبادي، وعند الواحدة والنصف ظهراً حفنة من الرز، وحبة رغيف، وقليل من الماء المخلوط ببطاطا أو باميا لا غير، وعند الثامنة مساءً نحن على موعد مع ما مر علينا في الصباح الباكر دونما اختلاف أو تغيير. ولقد كان الضرب دونما سبب هو ديدن كل مَن نلتقيهم منذ ساعات الصباح الأولى حتى نهاية الحصة الخامسة من يومنا الدراسي، فمشرف الطابور يجمعنا بعصاه المؤلمة لنفسياتنا، والملهبة لظهورنا، ويستكثر علينا النداء بمكبرات الصوت أو حتى بالصفارة كي نجمع إلى ساحة الطابور، وأستاذ الرياضيات إذا أخطأنا بكتابة رقم على لوحة التيلار البغيضة، ملزمٌ بالضغط على أصابعنا حتى يسيل الدم منها بفعل تلك المكعبات ذات الأسنان الحادة، وأستاذ العلوم كان لا يجيد سوى صفعنا على وجوهنا، حتى وإن عطس أحدنا أو تنحنح أو جاءته «فهقة»؛ لأنه لا يحب أن يرانا بمظهر الكائنات الحية، وإنما بمظهر الكراسي الجامدة التي نجلس عليها. كل هذا وليس من حقنا آن ذاك أن نقول: لا، أو نشكو لأحد، باستثناء الزملاء الذين كان أولياء أمورهم يزورونهم باستمرار، فهم مَن سيسلمون من العقاب، وهم قليل بالطبع. أما الذين اعتقد آباؤهم أنهم بأمان، وفي ظل دولة ترعاهم، فلا عاصم لهم من أمر كل معقد وخبيث، وعديم رحمة، وفاقد أدنى معايير الاتصاف بالإنسانية.
ومع ذلك صبرنا وتحملنا كل شيء؛ لأننا ندرك ألا منفذ آخر يمكن أن نسلكه في سبيل إعادة الاعتبار لذواتنا، والإثبات لكل مَن استنقصنا وسخر منا وحقرنا بفعل إعاقتنا سوى هذا المكان، فهو المنطلق الوحيد، والنقطة التي نختبر من خلالها أنفسنا، لكي نكتشف مدى نسبة نجاحنا وفشلنا في معترك الحياة بمفهومها الشامل، وباختلاف ميادينها المتعددة الجبهات والمعارك والأعداء. نعم، لقد ذهبت كل تلك الأيام بكل ما فيها، ولكن هيهات أن تُذهب معها بقايا جروح لا تزال تحفر عميقاً في أغوار النفس، باعثةً تنهيدة طفلٍ عامله مَن يفترض أن يرعوه معاملة مجرمٍ سجين!

أترك تعليقاً

التعليقات