إنه الحنين إلى الغوص في العمق!
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
ما أعجب هذا الإنسان، وما أعقد تراكيبه! فهو دائماً يمضي في رحلته الوجودية كمسافرٍ أبدي، مسافرٌ يبدأ من براءةٍ لا تعرف السؤال، ثم يغوص في دوامة القلق، حتى يجد نفسه في مواجهة الحقيقة العظمى. وبين الطفولة الفكرية والنضج الروحي، تتخلل رحلته مراحل من الشك والتجربة، مراحل تتنوع فصولها بتنوع ما يلاقيه من السقوط والنهوض، حتى يبلغ ذروة الوعي، حيث تتماهى ذاته مع الوجود دون أن تفقد فرادتها.
ففي البدء، يولد الإنسان على الفطرة، صافياً كنهر لم يخض معركة مع الصخور بعد. يرى الأشياء بلا تصنيف أو تعليل، يعيش منقاداً لغرائزه، كما تنقاد الأشجار للريح، لا يسأل لماذا تشرق الشمس، ولا يبحث عن معنى وجوده، بل يكتفي بالوجود نفسه. إنها تلك الطفولة العقلية التي ينعم فيها بالكمال غير المدرك، تماماً كالكائنات الأخرى التي لم تُثقلها المعرفة بعد.
لكن ما إن تبدأ جذوة الوعي في الاشتعالِ حتى يتحطم هذا الانسجام الفطري، كما لو أن الإنسان طُرد من جنة البساطة إلى أرض التساؤلِ. فجأة، تتسلل إليه أسئلة لم يعرفها من قبل: من أنا؟ لماذا أنا هنا؟ ما الذي ينتظرني؟ وكأنما أكلَ من شجرة المعرفةِ المحرمة، فاكتشف أنه ليس جزءاً بسيطاً من الطبيعة، بل كائنٌ منفصلٌ عنها كذلك، محكومٌ عليه بالتفكير الأبديّ. هنا يبدأ القلق الوجوديّ، لحظة السقوط من فردوس البساطةِ إلى متاهة البحث.
وفي مواجهة هذا التيه؛ لا يجد الإنسان سلاحاً سوى عقله، فيحاول بناء عالمه من جديد عبر التجربةِ والتحليل. يشرع في تفكيك الكون، يدرس حركته، يقيس أبعاده، يحصي ذراته، وكأنه بذلك يسعى لإعادة ترتيبِ الوجود بعد أن سقط في دوامة الأسئلة. إنه عصرُ العقل، حيث تسودّ الفلسفات الوضعية، وحيث يحكم العلم بقبضته، راسماً العالم كما لو كان آلة ميكانيكية محكومة بقوانين صارمةٍ. لكن شيئاً فشيئاً، يبدأ الإنسان في إدراك أن العقل، مهما بلغ من سطوة، لا يستطيع أن يملأ الفراغ الذي يسكن روحه.
عند هذه النقطة، يعود السؤال القديم ليطل برأسه من جديدٍ: ثم ماذا؟ ماذا بعد أن عرفنا قوانين الحركة، وقياسات الزمن، وتكوين الذرات؟ هل هذه المعرفة تكفي لسد الجوعِ العميق إلى المعنى؟ هنا تبدأ رحلة البحث عن الحكمةِ، حيث يدرك الإنسان أن الكون ليس مجرد معادلاتٍ صماء، وأن وراء الظواهر عللاً لا تدركها الحسابات. ينجذب إلى التصوف، إلى الفلسفات الروحيّة، إلى كل ما يجاوز حدود المنطق الجافِ. إنه الحنين إلى شيء أعمق، إلى معنى لا تدركه العقول وحدها، بل يكشفه القلب حين يتسع.
وفي قمة هذه الرحلةِ، يصل الإنسان إلى مرحلة الكشف، لكنه لا يعود إلى براءته الأولى، بل يرتقي إلى وعي أكثر صفاءً ونضجاً. لم يعد يرى الوجود كعدوٍ أو لغز معقد، بل كحقيقة يتناغم معها بوعي جديد. لم يعد السؤال عبئاً، بل صار بوابة للسكينةِ. هنا، حيث كان الحلاج يرى في نفسه الحقّ، وحيث كان ابن عربي يدرك أن الكون مرايا تتجلى فيها الحقيقة، وحيث صار بوذا يبتسم تحت شجرته، هناك فقط تتحقق الغاية من كل هذا السفر العقلي والروحي.
إنها رحلة الإنسان الكبرى، حيث يبدأ كحيوان لا يعرف إلا حاجاته، ثم يتحول إلى مفكر حائر، قبل أن يصل، إن كان محظوظاً، إلى مقام العارف الذي يرى الحقيقة، لا بعيني العقل فقط، بل بعين القلب أيضاً.
وهكذا يدرك في ذروة بلوغه قمة الكمال أنه كائنٌ ذُو شُعورٍ وإرادةٍ، يجدُ من نفسه حضوراً ذاتيّاً لا يقبَلُ الإنكار، وهو ما نُعبِّر عنه بالوعي أو الإدراكِ الحضوريّ. وهذا الإدراك ليس من سنخِ الصُّوَرِ المُنتَزَعَةِ من الخارجِ، بل هو تَعَلُّقُ النَّفسِ بذاتها، وبه تدركُ ذاتَها ومراتبَ كينونتها.
والإنسانُ في مقامِ التفاتهِ إلى نفسه، لا يجدُ ذاتَه مجرَّدَ تراكمٍ مادّيٍّ أو تفاعلاتٍ فيزيائيةٍ، بل يعي أنَّه فاعلٌ بالإرادةِ، مختارٌ في فعله، مريدٌ عن علمٍ، مدركٌ للمعاني الكليَّةِ من حقٍّ وعدلٍ وخيرٍ وجمالٍ. وهذه المعاني لا تُدركُ بالحسِّ ولا تُقاسُ بالمقدارِ، بل يتلقّاها العقلُ بما هو عقلٌ، فهي خارجةٌ عن نطاقِ الكمِّ والكيفِ، ومتعاليةٌ عن المادة.
ومن هنا يُعلمُ أنَّ حقيقةَ الإنسانِ ليست هي البدنُ ولا خصائصُه الفيزيائيةُ، بل هي ذلك الجوهر المجرد الذي يعي، ويقصد، ويعلم، ويُريدُ. وهذا الجوهرُ، لكونِه غيرَ ماديٍّ في فعلهِ وشعورهِ، لا يمكنُ أن يكون ناشئاً من المادةِ الصرفةِ العمياء الغير واعية، لأنَّ فاقدَ الشيءِ لا يعطيه.
فالوجودُ الإنسانيُّ، بما فيه من شُعورٍ بالغاياتِ، وتوجهٍ نحو الكليّاتِ، وانجذابٍ إلى المعنى والحقِّ، يدل على أنَّ مبدأَه الأعلى لا يمكن أن يكون مادةً صماء خاليةً من الإدراكِ، بل هو مبدأٌ عليٌّ، عاقلٌ، بل عِلمٌ محضٌ، هو أولى بالوجودِ ممّا سواه، ومنه انبعثت سائرُ الموجوداتِ.
وبالجملة؛ فليس في عالم المادة ما يُفسِّرُ حضورَ الوعي، ولا ما يُبرِّرُ الحريةَ، ولا ما يُعلِّلُ القيمَ. وهذه شواهدُ قائمةٌ في ذاتِ الإنسانِ تدلُّ، للعقلِ المنصفِ، على أنَّ وراء هذا العالمِ المشهودِ عالماً أوسعَ، هو عالمُ المعنى، وعالم الغيب، وعالم المجردات. ومن أنكرَ ذلك، فقد أنكرَ ما به يُعلَمُ كلُّ شيءٍ، ألا وهو العقلُ.

أترك تعليقاً

التعليقات