كي يسود الحق
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
لقد تضمنت الكثير من سور وآيات القرآن الكريم، الحديث عن الأكثرية والأقلية في سياق العرض التاريخي للمواقف التي اتخذتها المجتمعات البشرية ضد دعوة الأنبياء على امتداد حركة الرسل، وفي كل الأزمنة والأمكنة بالمستوى الذي ينزع القيمة الإيجابية عن الكثرة، فلا تجد الأكثرية إلا ووجدت معها المقومات التي تطبع كل شيء بطابع السلبية، بل يصل الأمر إلى أبعد من ذلك، بحيث يخرج المتأمل للآيات التي تتعرض للأكثرية بنتيجة مفادها أن الأغلبية في كل مرحلة من مراحل التاريخ الرسالي كانت تعيش الانحراف والجحود، وكانت تحارب الهدى في سبيل بقاء الضلال واستمراريته، ولا يتوقف موقفها عند الإعراض، بل يتعداه إلى الكراهية التي تدفعها إلى التحرك في محاربة الحقيقة بكل ما لديها من قوة، لأن الأكثرية تتحرك في دائرة الجهل لمحاربة العلم والمعرفة، وتسير بلا فكر للقضاء على الأفكار النيرة، بالإضافة إلى أن حسابات الأكثرية دائماً تستند إلى المظاهر المادية ولا تقوم على أساس إيماني عميق يُربي الروحية ويعزز الوعي، مما يجعلها لا تحسب حساب المستقبل، بل تعيش في نطاق اللحظة الزمنية التي تعمل على توظيفها بما يخدم أخلاقياتها الفاسدة وسلوكياتها المنحرفة التي تدفعها لتبني الباطل والعمل على تعميمه في كل ساحات الحياة وميادينها.
أما موقف القرآن من الأقلية فهو الموقف الإيجابي، باعتبار أن تلك الأقلية تحسب حساب المستقبل وتحدق بالزمن كله من منطلق الإحساس بالمسؤولية عن هذه الحياة والوعي بالمصير، كل ذلك بعمق إيماني وفكر واسع ونظرة شاملة لكل ما يحيط بها وأمام كل توجهاتها وأعمالها.
ولا بد هنا من بيان حقيقة إيمانية وقضية قرآنية تقول: إن مسألة التزام الأكثرية للباطل وارتباط الأقلية بالحق وإخلاصها له ليست مسألة تكوينية في ذات الإنسان، وبالتالي يستحيل أن تكون الأكثرية مع الحق، لأن الله خلق الناس جميعاً وبين لهم طريق الهدى والرشاد وطريق الضلالة والخسران، وأودع في كل إنسان كل ما يقيه من السقوط ويمنع عنه الغواية، وإذا كان ضعف الإنسان واستعجاله أساسين لبيان بشريته، فإن الله قد منحه حرية الاختيار وقوة الإرادة إلى جانب القدرة على تمييز الحق من الباطل ليصل بكل ذلك إلى درجة أعلى حتى من الملائكة المقربين، وعليه يجب أن نعمل على جعل ساحة الحق هي ساحة الأكثرية من خلال اتباع كل الأساليب التي تمكننا من النفاذ إلى قلوب الناس وعقولهم فتصبح الحالة العامة هي حالة الإقبال على الحق والتحرك بحركته لدى كل تلك الأفواج المنفتحة على دين الله الذي بموجبه تم لها الفتح وتحقق لها النصر بإذن الله.
ولكي يصير أهل الحق هم الأكثرية نقول: لا يكفي أن تثور على أنظمة العمالة والوصاية والتبعية، فتزيل رموز وشخصيات وكيانات تلك الأنظمة من الواجهة، دون أن تسعى للثورة على ما أوجدته طوال فترة سيطرتها على كل شيء من أفكار ونظم وعادات ومعايير وقواعد واتجاهات دخلت جميعها في كل جزء من أجزاء الكيان المجتمعي، وحكمت كل جانب من جوانب حياته، وذاك لعمري لا يتأتى من خلال تعميم خطبتي الجمعة على كل المساجد، ولا من خلال فتح مكبرات الصوت بالذكر والتسبيح بكرةً وأصيلاً، ولا من خلال قدرتك على إخراج أكبر عدد ممكن من الجماهير إلى الساحات والميادين في مختلف المناسبات والأحداث تأييداً ورفضاً، وإنما يتأتى من خلال عملك على إيجاد الواقع المعبر عن المنهجية الفكرية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية وسواها التي تبنتها حركتك الثورية، وقام عليها توجهك الديني والخطابي بين الناس، فالكل تواقٌ للحظة التي يتنفس فيها كل جانب من جوانب الواقع بأنفاس الثورة، ومتعطشٌ إلى مجيء اليوم الذي يلمس فيه روحها وقد صارت مصدر إحياء وإيجاد وابتعاث لكل ما تحتاجه الحياة الكريمة للفرد والمجتمع من نظم وقوانين.

أترك تعليقاً

التعليقات