إنسان ما بعد الطوفان
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
لقد دخلنا بعد انتصار المقاومة الفلسطينية في غزة في معركة «طوفان الأقصى»؛ مرحلةً جديدةً بكل المقاييس، مرحلةً لا تشبه سابقاتها من المراحل التي أرخت للصراع (الإسلامي -الصهيوني) لا من قريب ولا من بعيد، إذ لأول مرةٍ في تاريخ القضية الفلسطينية تختفي العناوين المذهبية والطائفية والعرقية والمناطقية والقومية والحزبية مفسحةً المجال للعنوان الكبير، والبعد الأسمى، الذي يجمع ولا يفرق، ويبني ولا يهدم، وهو فلسطين، وبذلك خسر دعاة التبعية والانقسام، وخدام الغرب الاستكباري، وحملة مشاريع التدمير والقتل والذبح والحرق والسحل واستباحة الحرمات أهم ورقةٍ ظلوا يراهنون عليها لعدة قرون من الزمن، ويستعملونها كسلاح فتاك لضرب الأمة من الداخل، فها هم أحرار الأمة سنةً وشيعةً يساريين وقوميين، عرباً وعجماً يقفون في خندق واحد، ويعملون من أجل هدف واحد، والكل يقول بالسان الحال والمقال: فلسطين قضيتي.
ومثلما استطاعت معركة «طوفان الأقصى» أن تستعيد بما بذله أحرار فلسطين والأمة من دماء ومواقف وأعمال اللحمة الإسلامية بعيداً عن العناوين المذهبية والطائفية، حتى وإن ظل هذا الإنجاز مقتصراً اليوم على الجانبين العسكري والإعلامي، فإنه سوف يستقر في الذهنية العامة، ويؤسس لوجدان ووعي جمعي جديد، يلتف من خلاله جميع أبناء الأمة حول الإسلام كدين إلهي، له مرجعيته الوحيانية المتمثلة بالقرآن الكريم، الذي يحوي بين طياته جميع مضامين الرسالة كنهج شامل وخطوط تفصيلية، وقيادته العظيمة الطاهرة والنقية الكاملة خلقاً وخُلقاً المتمثلة برسول الله محمد صلوات الله عليه وآله.
نعم، مثلما استطاعت معركة «طوفان الأقصى» تحقيق هذا الإنجاز فإنها في المقابل قد أسست كذلك لوجود مجتمع إنساني جديد، مجتمع تقوم جميع الصلات والروابط والعلاقات التي تجمعه مع بعضه البعض على أساس الإيمان بحق الإنسان، أياً كان لونه أو عرقه أو دينه أو منطقته أو لسانه، بالحرية والعدالة والعيش الكريم، وذاك ما لمسناه على أرض الواقع من خلال مظاهرات وحراكات وخطاب الشارع العالمي، والغربي على وجه الخصوص، وذاك ما يقول لنا إن فلسطين أرضاً وشعباً ومقدساتٍ ليست قضية العرب والمسلمين فحسب؛ بل هي قضية الإنسانية جمعاً.
وختاماً، إن انتصار غزة الجهاد والمقاومة اليوم وفي هذه المرحلة بالذات هو انتصار لكل أبناء الأمة، وإن لم تنخرط في العمل على تحقيقه بكل قواها، إذ اقتصرت المشاركة في هذه المعركة على قوى وحركات محور الجهاد والمقاومة، التي استطاعت لأول مرة في تاريخ الصراع مع الكيان أن تبعث الحياة في جسد الأمة، وتضخ الدم في عروقها، منتقلةً بها آلاف الأميال إلى الأمام على مستوى الوعي والإرادة والموقف، مراكمةً على ما تم تحقيقه على يد حزب الله في العام 2000 والعام 2006 والذي حفظ به ماء وجه أمة الإسلام ككل، وأوجد لدى المجاهدين الفلسطينيين روحية الجهاد المؤمنة بالوجهة، والقادرة على الصبر والصمود والاستمرارية في العمل بمختلف الوسائل من أجل تحرير الأرض والإنسان، وهو انتصارٌ يمكن الاستفادة منه لبناء وعي الإنسان الجديد؛ إنسان الحرية والعدالة والشرف والكرامة، إنسان ينحاز إلى جانب الحق، ويتحمل تبعات موقفه وانحيازه، إنسان لا يقبل التدجين، ولا يخضع لثقافة ومنطق القطيع، إنسان كامل بحق، إنسان ما بعد الطوفان.

أترك تعليقاً

التعليقات