وإذن.. ما المطلوب؟
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
مخطئٌ مَن اعتبر العلمنة مجرد نظام سياسي يفصل الدين عن الدولة، فهذا فهم سطحي، بل مغالطة مكشوفة! ولكي نتغلب على كل هذه المغالطات، ونخرج من نطاق الفهم القاصر؛ علينا النظر إليها كحالةٍ وجودية، كتحوّلٍ عميق في وعي الإنسان بالعالم ونظرته إلى نفسه وإلى الحقيقة.
نعم، العلمنة ليست مجرد فصلٍ بين المجال الديني والدنيوي، بل هي قطعٌ للصلة بين الظاهر والباطن، بين المادة والروح، بين العالم والمعنى.
لقد كان الإنسان القديم يرى العالم ممتلئاً بالمعنى، مغموراً بالنور الإلهي، وكان كل شيءٍ في الكون رمزاً ودليلاً له وجهٌ ظاهر ووجهٌ خفي. الأشجار كانت تمتد بين الأرض والسماء، جذرها في التراب وفرعها يحتضن السحب في الفضاء، وكذلك الشمس لم تكن مجرد كرةٍ نارية، بل كانت رمزاً للنور والفيض الإلهي، بل حتى الحروف والكلمات كانت تملك أسراراً وطاقاتٍ خفية.
ثم جاءت الحداثة بعقلانيتها فنزعت عن الأشياء روحها، وجعلت الكونَ مجرد مادة، والوجود مجرد ميكانيكا. أصبحت الشمس مجرد كتلةٍ من الغازات، وأصبحت الحياة ظاهرةً كيميائية، وأصبح الإنسان مجرد تطورٍ بيولوجي بلا مقصد. وهكذا، تم تجريد العالم من حضوره القدسي، ونفيُ الغيب من قلب الحضور.
إذا كان سقوط آدم من الجنة هو بداية انفتاح وعيه على الكثرة، وعلى الثنائياتِ بين الخير والشر، بين الجسد والروح، بين المادة والمعنى، فإن العلمنةَ تمثل سقوطاً آخر؛ لكنه سقوطٌ من نوعٍ مختلف: سقوطٌ من الوعي بأن الوجود له بُعدٌ قدسيّ؛ سقوطٌ من الإحساس بأن كل شيءٍ له صلةٌ بالحقّ؛ سقوطٌ من وحدة المعرفة إلى تجزئتها إلى علومٍ ماديةٍ بحتة.
وهكذا، أصبحت الحقيقة مقتصرةً على ما هو ماديّ، وصار ما لا يُقاس ولا يُحسب غير موجود. أصبح الإنسان محصوراً في عالم الحس، مقطوعاً عن الأصل، محبوساً في قفصٍ من الحديد، فاقداً للبوصلة التي تشير إلى النور.
العلمنة لم تكن مجرد مؤامرة ضد الدين، بل كانت استجابةً لانحرافٍ آخر، هو تحوّل الدين نفسه إلى أداةٍ للسلطة والقهر. حين أصبحت الكنيسة في أوروبا مؤسسةً دنيويةً تتاجر بالقداسة، وحين تحولت النصوص إلى قيود، والعلم إلى محرمات، جاء الردّ بإسقاط الدين من المجال العام، ليُترك الإنسان لمصيره وحده. لكن الحلّ لم يكن متوازناً. بدل أن يُطهَّر الدين من الانحرافات، تم التخلي عنه بالكامل. وبدل أن يُعاد فهم المقدّس، تم إلغاؤه من الوجود.
وهكذا، أصبح الإنسان أكثر حريةً في الظاهر؛ لكنه أكثر اغتراباً في العمق؛ إذ وجد نفسه وحيداً في كونٍ بلا معنى.
العلمنة جعلت الإنسان حرّاً لكنه تائه، قويّاً في المادة لكنه ضعيفٌ في الروح. وما دامت القضية بهذه السوداوية؛ فما الحل؟
الحلّ ليس في العودة إلى الظلام باسم الدين، ولا في رفض العقل باسم الروح، بل في استعادة التوازنِ، في رؤية الحقيقة من جديد كوحدةٍ تجمع بين العقل والقلب، بين العلم والقداسة، بين المادة والروح. فالعالم ليس جماداً، بل هو مسرحٌ للتجلّي الإلهي. والإنسان ليس مجرد جسدٍ بيولوجي، بل هو كائنٌ يحمل في داخله سرّ الخليفة. والمعرفة ليست فقط حساباتٍ وتجارب، بل هي شهودٌ واتصالٌ بالحقيقة. وإعادة القداسة إلى العالم لا تعني إنكار العلم، بل إعادة العلم إلى سياقه الأوسع، حيث يكون أداةً لكشف الحقيقة، لا لحجبها.
وهنا نصلُ إلى النتيجةِ الجوهريّة، وهي أنَّ أيَّ كيانٍ لا يَملِكُ منظومتَهُ المرجعيةَ المستقلةَ ثقافياً، معرفياً، اقتصادياً، فهو تابعٌ لمنظومةِ غيرِه، شاء أم أبى. وهذا قانونٌ تاريخيٌّ لا يستثني أحداً.
دعك من حماسة الخطباء، وانعزالية المتلطين خلف المظاهر الدينية لإخفاء عجزهم؛ ففي الواقع، نحن نعيش في عالمٍ تُحدَّد فيه الخريطةُ الجيوسياسية لا فقط بالجغرافيا أو الموارد، بل بمن يَملِكُ القدرةَ على تحديدِ المعنى، وتوزيعِ الحاجات، وضبطِ التطلّعات. ولهذا سالت الدماءُ، وسقطت الدولُ، ونُسِفَت الهويّات، من أجلِ تثبيتِ مركزٍ وخلقِ هوامشَ دائمةٍ. وإذن، فما هو المطلوب اليوم؟
إنَّ المطلوبَ ليس العُزلة، ولا الذوبان، بل إعادةُ تعريفِ علاقتِنا بالعالم، من موقعِ الفاعلِ لا المفعولِ به، عبر مشروعٍ إنسانيٍّ حضاريّ، يرفُض أن يُختَزلَ الإنسانُ في مجردِ مستهلكٍ عابرٍ، ضمنَ سوقٍ لا يرى إلا الكمَّ والربح.

أترك تعليقاً

التعليقات