المقالح نسي أن يحيا
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي/ لا ميديا -
قالوا: لقد مات فلان، ذلك الأديب والأكاديمي المعروف، الذي أثرى الساحة بقلمه وفكره ولسانه، شعراً ونثراً؛ فقلت: لقد مات قبل ثماني سنوات، ولم يكن إعلان نبأ موته في هذه الأيام إلا تحصيل حاصل؛ إذ لم يضف شيئاً، ولم يأت بجديد؛ لأن الأديب أو المثقف حين يحجم عن قول الحق، في الوقت الذي يكون فيه الواقع بأمس الحاجة لذلك، نظراً لتعرضه لهجوم أهل الباطل، الذين يسعون لمحو وجودنا وتهديم حضارتنا وتزييف وعينا وثقافتنا وتحريف تاريخنا، وانتهاك حرماتنا وسفك دمائنا واستعبادنا، قد حكم على نفسه بالموت، وإن ظل بعد ذلك الموقف آلاف السنين حياً في الظاهر، يمشي بين الناس ويأكل ويشرب ويتنفس، ويفكر ويتكلم ويسمع ويرى؛ لأن الحياة مواقف لدى مَن يفهمونها على حقيقتها، فلا يثنيهم مقام، ولا تؤثر في نفسياتهم عطايا وجوائز، عما يجب عليهم فعله تجاه مجتمعاتهم ومبادئهم ودينهم ووطنهم. أي أديبٍ هذا الذي فضل الصمت، والطائرات تقصف المنازل على رؤوس ساكنيها على مدار الساعة في اليوم والليلة؟! وأي مثقفٍ هذا الذي يعيش لنفسه، ويختار البقاء على الحياد، وهو يشاهد المذابح الجماعية بحق النساء والأطفال على امتداد الساحة اليمنية؟! لقد كان موقف أديبك هذا يا صديقي من العدوان الغاشم على بلدنا أقرب ما يكون إلى موقف ذلك الشخص الذي اعتزل الإمام علي عليه السلام، ولم يذهب إلى معاوية، فقال فيه الإمام: «لم ينصر الباطل؛ ولكنه خذل الحق». فما هو الفرق بين المرتزق والمحايد ما دامت نتيجة عمل كليهما واحدة؟!
دعك يا صديقي من مجاملات الوسط الثقافي للمحسوبين عليه من الشخصيات، ودعك من برتوكولات الإعلام، ونفاق بعض الساسة، ولا يغرنك كثرة المعزين والنائحين في وفاة أديبك، فكل ذلك ليس مقياساً لمعرفة أثره في الواقع، وتأثيره على النفوس، وإنما المقياس الحقيقي هو: إسهام أديبك في إثراء الساحة، بما يعزز الصمود، ويشحذ الهمم، ويصنع الدوافع، ويقوي العزائم في مواجهة العدوان، ودفع خطر الاحتلال الاستكباري عن الناس في وطننا الحبيب. ولا شك في أن رصيد أديبك ويديه صفرٌ في هذا الجانب، بل وحتى في غيره، لكونه اختار طوال مسيرة حياته العملية أن يظل ممسكاً العصى من المنتصف، وأن يختار البقاء في النقطة الرمادية، مهما تغيرت الظروف والأحوال أو اختلفت السياسات وتبدلت المواقف والأنظمة.
إن المقالح ظل «يحفر في الجدار» حتى قوض بنيانه بالكامل، فكان الفأر الذي فتح الطريق لآلاف الخونة والمرتزقة، كي يلتحقوا بصفوف المعتدين، وينضموا إلى مَن سبقهم إلى السجود تحت أقدام أمير النفط. ولو قمنا بإحصاء عدد الذين كانوا يحضرون صالونه، وقمنا بعدها بالبحث عنهم، لوجدناهم اليوم في فنادق جدة وإسطنبول والقاهرة، ينحرون الحقيقة، ويزينون الكذب، ويمتهنون القوادة، ويبيعون أنفسهم وشعبهم وقضاياه بثمنٍ بخس.
لقد ظل البردوني حاضراً بشعره وفكره وكلماته وأبحاثه، مع أن جسده فارقنا منذ عقدين ونيف من السنين؛ ولكن لم يمنعه ذلك من أن يواكب كل المراحل الزمنية اللاحقة، ويسهم في صنع التحولات الكبرى، ويعمل على كشف الحقائق، فها هم الصامدون يتغنون بقصائده، التي جعلت صاحبها حامل راية الشعر والشعراء في زمن المواجهة والتصدي لعدوان الغرب المستكبر الصهيوني، وقفازاته الأعرابية؛ وليس هذا فحسب، بل إنه لا يمكن لك أن تجد شخصيةً اقتربت من البردوني وحضرت مجلسه وصادقته وتتلمذت على يديه وكتبت أو قرأت له ضمن الخونة والعملاء والمنافقين، إلا في النادر، وهم اليوم يقفون موقف العزة والكرامة بجانب شعبهم وأمتهم. ولعل مرد ذلك إلى الفارق الجوهري بين الشخصين؛ فالبردوني «ينسى أن يموت»، والمقالح «نسي أن يحيا».

أترك تعليقاً

التعليقات