قرية كل مَن فيها أعور
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
قبل أسبوعين من اليوم، وأنا أكتب مادة هذا العمود، حدث أمرٌ غريب، لم يسبق لي أن مررت به من قبل، وهو: أنني لما فرغت من كتابة آخر كلمةٍ في المقال، اختفت مادته بالكامل من الجهاز المحمول، ودون مقدمات، أو سابق إنذار. عندها أصبتُ بالتوتر المصحوب بالألم النفسي الشديد، والحزن الناشئ عن وقوع المصيبة التي لم تكن بالحسبان، وأي مصيبةٍ ترقى لمستواها؟! إذ تجعلك تقف وجهاً لوجه مع لحظة موت وفناء جزء من روحك وفكرك وجهدك ووقتك فلا تستطيع فعل شيء حيال ذلك. عندها نهضت واقفاً، مطلقاً صرخة من تملكه العجز عن استعادة ما عز عليه ذهابه وتبخره، إلى الحد الذي جعل زوجتي تجيء مسرعةً، وهي تتوقع نتيجة ما تبادر إلى مسامعها من صرخةٍ مكلومة، عنوانها التوجع والتفجع: أنها لن تصل إليّ إلا وقد أصبحت جثةً هامدة، مع توارد سيلٍ من الشكوك والأوهام على ذهنها، عن السبب الذي يقف وراء ذلك الصوت المليء بكل مضامين الإحساس بمرارة الفقد، وضراوة الفتك التي يقاسيها مطلقه في كيانه وروحيته إزاء الألم. ولكن ما إن أخبرتها بما حدث حتى وقفت من الأمر الموقف نفسه الذي وقفته، ولم تستنكر عليَّ حزني وصراخي، كيف لا وهي تدرك أن الوقت حرجٌ للغاية، ولم يعد يفصلني عن موعد التسليم سوى بضع دقائق؟! وحتى وإن قمت بكتابة مادة أخرى خلال المتبقي من الوقت فإنها ستكون مادة هزيلة ومرتبكة ومشوشة، وغير لائقة بنيل شرف تربع النشر ضمن مواد العدد الصادر عن هذه الصحيفة التي لا يليق بها سوى الكمال، ولا ترضى لنفسها إلا الصدارة والعلو والسبق دائماً وأبداً؛ ولكن لم يكن أمامي خيار إلا أن أملي عليها بقايا فكرةٍ ماتت قبل أن تولد، لكونها أسرع مني في الكتابة، وأقدر على تفادي الوقوع في الأخطاء الإملائية، وتمت المسألة من حيث الشكل، ولكنها قصرت من حيث المضمون.
نعم، لقد تمكنت من تسليم المادة في الوقت الضائع من زمن وصولها؛ ولكن ظل الأمر أكثر من ثلاثة أيام مسيطراً على تفكيري ومشاعري وأحاسيسي، حتى بات له انعكاس على الجسد كما هو منعكس على الروح والوجدان؛ إذ كان الصداع الكلي واحداً من أبرز مظاهر ذلك الانعكاس، وقد بقيت مع مأساتي مدة ليست بالقصيرة، نغدو ونروح معاً في أكثر من اتجاه، ما جعلني أحاول تلمس مثيلاتها من المآسي التي تتعدى الشأن الخاص المتصل بالفرد، لتلقي بظلالها على الوضع العام برمته، فيصير الجميع عرضةً للمعاناة، نظراً لما ينشأ عنها من تبعات وكوارث واختلالات تطال الواقع كله؛ أعني: تلك المآسي التي نعيشها ونعايشها يومياً، وهي تتوالى تباعاً من قبل العاملين في أكثر من مجال من مجالات العمل، ومن قبل المعنيين بحمل المسؤولية في أكثر من ميدان. وقد حدثتني نفسي أكثر من مرةٍ بالقول: لماذا تحزن على موت فكرةٍ بالإمكان الإتيان بأفضل منها في قادم الأيام، في حين ترى البعض لا يأبهون لشيء وهم يساهمون بطريقة أو بأخرى في موت قضية، وضياع مصير، وإهدار جهود وتضحيات جسام؟!
ألأنك شاعريٌّ أكثر مما ينبغي؟! أم لأنك تخشى الوقوع في النقص والفشل؟! ثم ماذا لو فشلت اليوم في إيصال ما كنت تود إيصاله؟! فها هو غيرك يفشل مراراً وتكراراً، ومع ذلك لا يعترف بفشله، ويعمد لارتكاب الأخطاء دائماً، دون الشعور بالخجل أو الإحساس بحجم الذنب، ومرارة التقصير، وفوق هذا كله فهو على استعداد للدخول في مواجهة مع كل مَن يريدون تنبيهه إلى مدى إمعانه في الخطأ، ومجانبته الكلية لكل ما هو صواب، ألم تسمع فلاناً؛ ذلك الشخص المتصدر للعمل التعبوي، وهو يوجه النصح للجمهورية الإسلامية بضرورة اعتماد أسلوبه في التربية والتعليم والتثقيف ومواجهة الحرب الناعمة؟! مع أنك لو قمت بمقارنة ما فعله ويفعله التعبويون والتوعويون في بلادنا والإعلام الرسمي، مع ما يفعله التوعويون والتعبويون والإعلام هناك، لأدركت أننا لم نزل في خانة الصفر بالمائة بالنسبة لما تحقق ويتحقق على يد رجال إيران الإسلام، وعليك أن تثق بأن أمثال هذا الشخص ما داموا هم الطليعة، وأصحاب الأمر، أننا لم نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، إذ بات هؤلاء يرون أنفسهم ناجحين إلى الحد الذي يجعلهم يقدمون على بيان تجربتهم لكل المحور، كي يستفيد منها.
إذا كنت قد منيت بخسارة سطور من المداد، فغيرك يا هذا يرغب بأن يتحول إلى ممحاة لكل ما اختطه الشهداء بعرقهم ودمائهم من مبادئ وقيم، فلا تخشَ شيئاً، فأنت واحدٌ من سكان قريةٍ كل مَن فيها أعور!

أترك تعليقاً

التعليقات