حتى لا نظل في الهامش
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
لعل من الوفاء للمشروع القرآني اليوم وغداً هو: العمل على مد جسور الثقافة القرآنية إلى كل حقل من حقول السياسة والفكر والاجتماع والاقتصاد والتربية، بحيث يجد الناس ملامح وآثار هذه الثقافة حاضرةً في كل منطقة من مناطق وجودهم، فاعلةً في واقع حياتهم، متفهمةً لطبيعة ما هم فيه من مشكلات وأوضاع وظروف على كل الأصعدة، مختزنة لكل ما يحتاجونه من حلول، قادرةً على الفعل على ضوء ما ترسخه من قناعات بضرورة التحرك، وتعطيه من أفكار تتحول إلى عامل إغناء لمتلقيها من الناس في الاتجاهين الروحي والمادي، فنحصل من خلال ذلك كله على الشخصية المبنية في فكرها وعاطفتها ونظرتها للواقع على أساس القرآن، ولا نبالغ إذا قلنا: إن التربية القرآنية هي من العناصر الأساسية للتحرك الفاعل، بل من أشد العوامل التي تحتاجها كل ساحات العمل، وجميع ميادين تحمل المسؤولية، إذ بها نستطيع أن نوجد في ذواتنا ذهنية قائمة على أساس القرآن، فتتحرك بحساب، وتقف بحساب، وذلك في إطار خطة عملية ترصد الواقع، وتحكم عليه من خلال الشريعة، فإذا عرفت أن القرآن يدفعها إلى الانضباط هنا، والتوقف هناك، التزمت بذلك، وإن كان مخالفاً لنوازعها ورغباتها، وإذا وجدت أنه يدعوها إلى التحرك والمواجهة انطلقت دون هوس أو تسويف، حتى وإن كان الثمن بذل الروح على مذبح الاستشهاد.
وهذا هو ما يحتاجه الواقع العملي اليوم، في كل مواقعه واتجاهاته، وذلك لأن الغاية من أي عمل نعمله كبر أم صغر هي: إقامة دين الله، ومادامت الغاية هي هذه، فلا بد من توطين النفوس على الدعوة إلى الله، وتنمية كل مقومات الحفاظ على صفاء ونقاء مبدأ الجهاد في سبيله، وتخليصه من كل الرواسب الباطلة، والتعقيدات المنحرفة، والنفسيات المريضة، وذلك لن يتحقق إلا متى ما تخلصنا من الأسلوب الذي انطبع به العمل الثقافي، والذي عادة ما يقوم بتقديم المفاهيم الكبيرة والمنطلقات العامة إلى المجتمع، فيمتلئ بها فكره ووجدانه، ولكنها لا تستطيع أن تحفظ له خطواته من الزلل والانحراف، في كل ما قد يعترض طريقه من قضايا محدودة، وجزئيات صغيرة، مما يتطلبه الواقع، ويفترضه اختلاف الأوضاع، وتنوع التحديات والإشكالات، لأنه يجهل الآلية التي تمكنه من القدرة على تحويل ما يختزنه من مفاهيم ومعلومات إلى واقع، الأمر الذي دفع بالبعض إلى التعامل مع الإسلام كنظام من أنظمة الحكم الوضعية، مكتفين بالتزام الشكل، بعيداً عن التزام المضمون، وذلك لتنامي الإحساس بالغفلة عن رقابة الله، والانقطاع عنه إلى النفس ونوازعها وحاجاتها الغريزية وسواها.
من هنا اقتضت الضرورة تذكير العاملين: أن الطريق إلى إقامة دولة العدل الإلهي، يبدأ من إقامتها في دواخل العاملين، وصياغة نفسياتهم وفقها، ما لم فإن الجهود مهما عظمت فلن تنتج سوى الفراغ، وإن التحركات مهما اتسعت، فلن توجد سوى المزيد من التيه، إذ المسألة في الإسلام مختلفة تماماً عما لدى النظريات الوضعية، والفلسفات السياسية البشرية، التي تقضي بضرورة التزام الفرد العملي كآلة، ولا مانع من أن يختار على صعيد علاقته بنفسه، وحياته الخاصة النمط الذي يريد، ويمارس ما يشتهي، فلا شيء يحق له أن يحكمه، أو يعمل على وضع محددات وضوابط لسلوكه وتصرفاته.
وإذا كان الواجب يفرض علينا صياغة الذات العاملة، كما نريد أن يصاغ ويقام الواقع الخارجي، فإنه كذلك من الواجب اليوم: أن يلمس الناس الانسجام بينهم وبين العاملين، بحيث يجدون أن مَن يدعونهم، ويديرون شؤونهم هم أناسٌ يعيشون بينهم، ويقاسون من كل ما يقاسيه السواد الأعظم منهم، ويمرون بذات الظروف والأزمات، حقيقةً لا ادعاءً ودغدغة للعواطف، وتصنعا للزهد والصلاح، عندها يدرك الجميع أنهم أمام مشروع جاء لتوحيدهم، وإحيائهم، وإزالة كل الفوارق والطبقات والحواجز التي كانت وراء شقائهم وشرذمتهم وتشتتهم وضياعهم في السابق، وأن ليس هناك من أحد لايزال يعيش في برجه العاجي، وحتى لو قام بمخاطبتهم، فإنه لا يقف سوى على الهامش من حقيقة ما يجدونه على الطبيعة، ويلتقون به على مدار الساعة في اليوم والليلة.

أترك تعليقاً

التعليقات