عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
غزة ليست مجرد رقعة على خريطة، بل هي مرآة صادقة تعكس أوجه الضعف والهشاشة المتغلغلة في بنيان الكيان الصهيوني. الجرائم المرتكبة في غزة، والتصرفات الدنيئة وغير الإنسانية، تكشف عن التدنّي الأخلاقي العميق لدى هذا الكيان، الذي يعاني اليوم من انقسامات داخلية عميقة ومتجذرة. الخلافات الحادة حول خطة السيطرة الكاملة على القطاع لم تعد مجرد نزاع سياسي أو عسكري، بل هي تجلٍّ صريح لأزمة وجودية تهدد مستقبل هذا الكيان.
في خضم تصاعد التوترات، تبدو هذه الخطة وهماً باهظ الثمن، محملة بمخاطر استراتيجية جسيمة تهدد قوات الاحتلال، وتضع مستقبل قيادتها العسكرية والسياسية على المحك. يقف كبار القادة في مواجهة تضارب شديد بين التحذير من استنزاف القوات وفقدان المزيد من الأرواح، وبين الإصرار الأعمى على فرض هذه الخطة بذريعة إنقاذ الأسرى، ما يكشف ارتباكاً واضحاً وتخبطاً مقلقاً لأعلى مستويات القيادة. هذا الصراع الداخلي لا يشي إلا بفشل محتوم، بينما يزداد الاحتلال توغلاً في متاهات لا نهاية لها تزيد معاناة أهل غزة الذين يرفضون الاستسلام لأوهام السيطرة الزائفة.

الانقسام الداخلي: أزمة قيادة الكيان الصهيوني بين الفشل والجنون
الخلافات الحادة داخل حكومة الكيان الصهيوني حول خطة احتلال قطاع غزة تكشف بوضوح هشاشة هذا الكيان، وتهافت قيادته العسكرية والسياسية. ففي حين يحذر رئيس أركان قوات الاحتلال، قائلاً: «احتلال غزة فخٌّ استراتيجي سيُنهك الجيش ويعرّض حياة الأسرى للخطر»، يصرّ مستشار الأمن القومي، تساحي هنغبي، على المضي في هذه المغامرة المجنونة بذريعة: «لست مستعداً للتنازل عن فرصة إنقاذ ما لا يقل عن عشرة أسرى». وفيما يرفض جنود الاحتياط العودة إلى جحيم القتال في غزة، معلنين نفاد صبرهم واستنزاف معنوياتهم، يضاف صوت الجنرال المتقاعد غادي شاملي ليؤكد أن «الخطة لن تعيد الأسرى ولن تهزم حماس أو تجبرها على التخلي عن السلاح»، بل ستكبد الاحتلال خسائر فادحة في الأرواح والكرامة.
ترسم عائلات الأسرى صورة مأساوية لما هو آتٍ، محذّرةً من أن «احتلال القطاع سيؤدي إلى مقتل الأسرى وسقوط مزيد من الجنود». وسط هذه الفوضى والتخبط، يظل نتنياهو يلوّح بالاحتلال الكامل كخيار مستبد أعمى، متحدياً الواقع المرير وأصوات المعارضة الداخلية المتصاعدة، ما يعكس ضعف قيادة بلا رؤية، وكياناً على شفا الانهيار، في وجه المقاومة الفلسطينية الصامدة. وبينما يغرق الاحتلال في متاهات عبثية مظلمة، تتعاظم معاناة أهل غزة، الذين يقابلون آلة القمع بالصمود والعناد، رافضين الركوع أمام أوهام الهيمنة الكاذبة.

مغامرة الاحتلال
لا يمكن أن يُنظر إلى خطة نتنياهو لاحتلال قطاع غزة إلا كمغامرة رعناء، ستعمّق قبح قوات الكيان الصهيوني المهزومة والمستنزَفة أصلاً، وتكشف مزيداً من عجز الكيان وانحطاطه. الادعاءات المتكررة لهذا الكيان حول قدرته على السيطرة وتحقيق أهداف استراتيجية ليست سوى دجل سياسي يحاول إخفاء الواقع المرير على الأرض. إن الاحتلال الكامل لغزة لن يكون سوى فخٍّ استراتيجي يعيد للكيان دروس الفشل والهزيمة أمام مقاومة فلسطينية صلبة لم تُكسر رغم كل المحاولات.
هذه المقاومة تعزز قوتها العملياتية يوماً بعد يوم، ما يجعل السيطرة على القطاع وفق الخطط الصهيونية وهماً بعيد المنال. وفي قلب هذه الأزمة، لا يمكن تجاهل الخلافات الحادّة داخل قيادة الكيان الصهيوني، وأنها ستستمر وتتعمق؛ إذ تكشف كل خطوة عن انقسامات غير قابلة للحل بين من يرى في الاحتلال كارثة استراتيجية، ومن يصرّ على المضي قُدُماً بذرائع واهية، مثل تحرير الأسرى.
هذه الانقسامات ليست مؤقتة، بل تمثل أزمة بنيوية في صنع القرار داخل الكيان الصهيوني، وتؤكد هشاشة قيادته وتخبطه المتواصل. أمّا قضية الأسرى فهي ذريعة يستخدمها الكيان الصهيوني لتبرير العدوان وارتكاب الجرائم. وهذا الفشل المستمر في استعادة الأسرى يزيد عزلة الكيان، ويؤكد أنه لن يحقق سوى المزيد من الانهيار المعنوي والعسكري. خلاصة القول: هذه المغامرة ليست سوى مرآة تعكس ضعف وهشاشة القيادة الصهيونية، وانقساماتها المستمرة، وانهيار معنويات قواتها، في مواجهة مقاومة فلسطينية أثبتت أنها لا تعرف الانكسار أو الاستسلام.

استراتيجية متطورة تفضح أوهام الكيان الصهيوني
من خلال متابعة مسار المواجهة، يتضح أن المقاومة الفلسطينية ليست مجرد رد فعل تقليدي، بل منظومة متكاملة من التكتيكات المتطورة التي تضع الكيان الصهيوني في مأزق حقيقي. لقد انتقلت المقاومة إلى حرب مركّبة، تستخدم أنفاقاً سرية تكاد تكون شرايين حيوية للهجوم المفاجئ، وكمائن محكمة تستهدف النقاط الضعيفة في منظومة الاحتلال الأمنية، وصولاً إلى مسيّرات صغيرة لا يقل تأثيرها في تآكل الروح المعنوية للقوات والمستوطنين. هذا التنوع الاستراتيجي أجهض، بشكل منهجي، أي قدرة للعدو على فرض هيمنته، محدثاً أزمة في جوهر عقيدته القتالية، إن وُجدت أصلاً.
على الصعيد الإعلامي والنفسي، برهنت المقاومة على مهارة فائقة في إدارة الحرب النفسية، مستغلة الفضاء الإلكتروني لبث مشاهد العمليات التي قلبت موازين الرأي العام، وفضحت هشاشة الكيان، وتسببت في اهتزاز ثقة قواته وقاعدته الشعبية. هذا التآكل النفسي لم يكن عارضاً، بل نتاج استراتيجية مدروسة تنسجم مع الواقع الميداني.
استراتيجياً، نجحت المقاومة في تحويل قطاع غزة إلى مستنقع استنزاف لا يُطاق عسكرياً ولا اقتصادياً للكيان الصهيوني، فكل خطوة احتلال تُقابَل بتكلفة باهظة تزيد تآكل قدرات قوات الكيان وتعقّد حساباته السياسية. كما أن التكامل بين قوة السلاح وتماسك الشعب يشكّل جبهة مقاومة موحّدة لا تقبل الانكسار، وهو ما يجعل الاحتلال مجازفة قاتلة.
من الناحية التحليلية، من المرجح أن هذا الواقع سيزيد انقسامات الكيان الصهيوني؛ إذ سيواجه صراعاً بين من يرى في المقاومة تحدياً وجودياً يستوجب إعادة التفكير الجذرية، وبين من يصرّ على الخيار العسكري رغم تكلفته المهلكة. والأخطر أن المقاومة لم تكتفِ بالقتال في غزة، بل أصبحت مصدر إلهام ومحور دعم إقليمي، ما يعمّق عزلة الكيان سياسياً وعسكرياً، ويجعل أي استسلام وهماً في وجه هذا المدّ المتصاعد.

تفكك مؤسساتي وانقسام سياسي عميق
يتبين بوضوح أن الكيان الصهيوني يمر بأزمة سياسية عميقة تتجاوز مجرد اضطرابات مؤقتة، لتشكل انهياراً منهجياً في بنيته الداخلية. الفوضى التي تسود أروقة الحكم داخل هذا الكيان تُظهر حالة انهيار مؤسساتي، إذ تتفاقم الصراعات بين الكتل السياسية المتشددة والمتطرفة، في حين تحاول قيادة الكيان، بقيادة نتنياهو، تثبيت سلطتها عبر إجراءات قمعية تستهدف خصومها القضائيين والأمنيين. هذه المعطيات تكشف هشاشة النظام السياسي، وتعمق أزمة فقدان الثقة بين المستوطنين ومؤسسات الحكم.
كما يتضح أن ثقة المستوطنين في كيانهم تتراجع بشكل متسارع، مع تصاعد موجات الاحتجاجات الشعبية التي تعكس حالة إحباط جماعي تجاه السياسات الفاشلة والوعود الزائفة التي لم تُترجم إلى حلول فعلية. هذا التراجع في ثقة المستوطنين يؤثر سلباً في الاستقرار الداخلي للكيان، ويزيد تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي.
من ناحية أخرى، يبرز التخبط الواضح في صياغة الخطط السياسية والاستراتيجية للكيان الصهيوني، خصوصاً فيما يتعلق بإدارة الوضع بعد الحرب على غزة، إذ يغيب أي تصوّر واضح للمستقبل، ما يعكس غياب الخبرة والاحتراف في اتخاذ القرار، ويعزّز حالة الانقسام الداخلي. كما تُبرز الخلافات المتفاقمة بين التيارات الدينية المتشددة والقوى العلمانية أبعاداً إضافية من الضعف السياسي، إذ تلقي هذه الانقسامات بظلالها على وحدة الكيان الصهيوني، خاصة في ظل تصاعد أزمات الفساد والمحاكمات السياسية التي تهدد باستفحال الأزمة الدستورية داخل الكيان.
بالإضافة إلى ذلك، تشير المعطيات إلى إمكانية انزلاق الكيان الصهيوني نحو صراعات داخلية خطيرة، نتيجة الاحتجاجات والاشتباكات المتكررة بين الأجهزة الأمنية والمستوطنين، ما يعكس هشاشة السيطرة الأمنية والسياسية في هذا الكيان. وفي ضوء كل ذلك، يتضح أن خسائر الحرب وتفاقم الأزمات السياسية داخل الكيان الصهيوني يزيدان تعميق الانقسامات، ويضعفان ثقة المستوطنين في القيادة الحالية، الأمر الذي يسرّع تدهور الوضعين السياسي والاجتماعي، ويضع مستقبل هذا الكيان في مواجهة تحديات جسيمة تقرّبه من الزوال.
في المحصلة النهائية، يمكن القول بأن خطة احتلال غزة ليست سوى مقامرة سياسية وعسكرية خاسرة، تدفع بالكيان الصهيوني نحو مزيد من الانقسام والهشاشة. فواقع الانقسامات الداخلية، وصراع التيارات السياسية، والفشل الذريع في قضية الأسرى، وصمود المقاومة بكل أدواتها، ترسم جميعها لوحة انهيار تدريجي للاستراتيجية الصهيونية. لم تعد أوهام السيطرة تجدي نفعاً، بل أصبح الاحتلال عبئاً يُعمّق العزلة الدولية، ويكشف هشاشة الردع العسكري، ويتسبب بفقدان داخله. الاستمرار في هذا النهج العدواني يعني تعميق الأزمات الداخلية وتآكل مؤسسات الكيان أكثر، ليبقى مشروع الاحتلال مشلولاً وعاجزاً، أمام مقاومة جريئة وواقع سياسي يزداد اضطراباً. غزة اليوم ليست فقط عقدة مستعصية، بل بوابة لسقوط وهم التفوق والأمن الصهيوني للأبد.

أترك تعليقاً

التعليقات