البداية المطلوبة أولاً
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
التقدم والازدهار الوطني لشعبٍ من الشعوب لا يتحقق بمجرد امتلاك الثروات المعدنية والحيوانية والنباتية وسواها، فكم هنالك من كيانات ودول انهارت أو شارفت على الانهيار، رغم امتلاكها كل المقومات المادية التي صرفت جل اهتماماتها إليها، لتنميها وتوسع نطاق وجودها وتستثمر في حقولها، ظناً منها أن ذلك هو العامل الوحيد الضامن لديمومة بقائها واستمراريتها، والميدان القادر على مدها بكل عوامل القوة التي تحتاجها لبناء حضارتها، وتحقيق الغلبة والنفوذ على منافسيها وأعدائها؛ ولكن سرعان ما يتضح لها مدى الإغراق في الوهم الذي كانت تعيش فيه وله، وذلك بمجرد هبوب أول عاصفة تستهدف وجودها وسلطتها، ولا فرق في ما لو كان مصدرها الداخل أو الخارج، مادامت النتيجة واحدة. صحيحٌ أن وجود الثروة قد يمنحها شيئاً من الرخاء الاقتصادي، ويدفعها خطوات كبيرة إلى الأمام علمياً وعسكرياً وصحياً وثقافياً؛ ولكن كل ذلك لا يستطيع أن يحول دون سقوطها وتلاشيها. وليس ثمة شاهد على حقيقة هذا الأمر، من دولة بني العباس التي انهارت تحت زحوفات خيول جنكيز خان، وتبخرت من الوجود تحت ضربات سيفه، مع كثرة العلماء والأدباء، وامتلاك كل مقومات الراحة والبقاء بيدها، وتحت تصرفها؛ فما قيمة علمٍ عاش للقصر وتجاهل الكوخ؟! وما جدوى الأدب الذي كرس جل وقته وطاقته ومواهبه لتسلية الخلفاء، ومسامرة الجواري والغلمان في قصر «ألف ليلة وليلة»، وصم قلبه وأذنيه عن صراخ الجوعى، وأنين الفقراء، واستغاثات المظلومين والمقهورين خارج القصر؟!
لن يكون كل ذلك أكثر من قشور خادعة، بليت واهترأت في حينها؛ لأنها خدمت دولة السلطان، وتنكرت لدولة الإنسان.
أما ما يعنينا من كل ما تقدم، ولاسيما ونحن في بداية الانطلاقة لبناء وطننا، فهو: الوعي بأننا لن نتمكن من بناء وطننا، وإقامة حضارتنا، بشكل صحيح وقوي ودائم، إلا متى ما بدأنا عملياً بالتوجه نحو بناء الإنسان، وبذلنا قصارى جهدنا في تأهيله نفسياً وفكرياً، وترسيخ وتنمية كل القيم العظيمة في روحه، لينطلق منذ نعومة أظفاره إلى رحاب الحياة، وقد تسلح بكل ما تحتاجه الجوانب المتعلقة بشخصيته من أخلاق ومهارات واتجاهات عملية، إلى جانب الحرص على تحبيب المعرفة والعلم إليه، وتعريفه بأنه جزء من مجتمع قائم على منظومة دينية تحدد له الحدود والضوابط والخطوط والعلاقات، وتبني فيه الأخلاقيات والدوافع التي تحركه نحو الله في كل مواقفه وأفعاله.
تلك هي البداية الأولى التي بواسطتها يتحقق التكامل للإنسان روحياً ومادياً، سواءً كان فرداً أو مجتمعاً.
وأخيراً، فإن ما يجب التأكيد عليه هو أن ما تحتاجه ثورتنا اليوم وغداً هو ذلك الفرد الذي يعيش حالة من السمو الروحي والأخلاقي، ويسير باتزان تام في حركته، الحاصل على حقوقه، المحمي من العبثية والظلم والانتهازية، فمتى ما وجد نفسه في ظل دولة تحمي حقوقه، وتحفظ كرامته، كان الأقدر على العطاء والتقدم والإبداع والإنتاج، والأكثر صلابة وقوة وثباتاً في مواجهة كل الأخطار والتحديات.

أترك تعليقاً

التعليقات