لقد اخترت
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
أحياناً نحنُّ إلى مرحلة الطفولة بكل ما فيها، ونتمنى لو أننا بقينا على الدوام أطفالاً، وخصوصاً عندما نجد أنفسنا في منتصف العمر، وقد ذبلت فيها كل ورود الأحلام، وجفت لديها كل جداول وعيون الطموح، وسُدَت أمامها كل نوافذ وأبواب الأمل.
أيُ شبابٍ هذا الذي نحن فيه، وقد بات جل همنا هو: كيف نحصل على أبسط المقومات التي نشعر إزاءها أننا لانزال على قيد الحياة؟ أي شبابٍ هذا الذي تجد نفسك فيه مجبراً على السير مع التيار، أيَ تيارٍ، مهما كان مخالفاً لقناعاتك، ومتناقضاً مع أفكارك، ولا ينسجم مع ميولك ورغباتك، إذ إن ما يعنيك هو: تأمين لقمة العيش بحدها الأدنى لك ولمَن تعول، ليس إلا، أما ما خلا ذلك فليذهب إلى الجحيم؟
لقد استغرب عليَ أحدهم قولي: إني لم أعد أعطي الحياة أي اهتمامٍ إلا بالقدر الذي يعينني على البقاء حتى ساعة نزول القدر المحتوم بساحتي من الله تعالى، قائلاً: وأخيراً استسلمت يا صديقي للشيء الذي لطالما تمردت على قوانينه ونظمه، ورفضت منطقه وأحكامه! أين تلك النزعة التي كانت تدفعك باتجاه الوقوف ضد أي خلل، أو ظاهرة سلبية، وكأنك كنت تود حمل الواقع كله على كتفيك، لكي تبلغ به شط النجاة؟ هل أنا أمام تجسيد واقعي لتفاصيل رواية «الحمار»، لكاتبها توفيق الحكيم، وبات لسان حالك يقول: «ما فيش فايدة يا صفية»؟
ربما يا صديقي تجد هناك أوجهاً للتشابه بيني وبين بطل روايتك تلك، إلى المستوى الذي يدعوك للدهشة، حينما ترى مدى التماثل بين أكثر من مشهد جاء في الرواية، وتكرر على أرض الواقع اليوم، ولكن ما أبديته لك مما يختلج بداخلي من أحاسيس ومشاعر طافحة باليأس، لا يعني بأي حال من الأحوال أنني أصبحت على استعداد للتخلي عن قناعاتي وأفكاري ورسالتي ودوري في الحياة، ولكن ما عنيته هو: أنك إذا أردت أن تبقى مخلصاً لما تؤمن به من عقيدة ومنهجية وقيادة وخط، عاملاً في سبيل تحقيق الأهداف التي تلزمك بتحقيقها كل تلك الأسس، فإن عليك أن تضحي بكل مطامحك وآمالك وتطلعاتك وأحلامك على الصعيد الشخصي، فمثلاً لن تستطيع مواصلة مشروعك في الدراسات العليا إلا عندما تكون مستعداً لاتخاذ النفاق مطيةً لبلوغ ذلك، ولن تتمكن من نيل ما تتمناه من حياة هانئة وسعيدة لا ينغص عليك فيها شيء، إلا حينما تتنازل عن إرادتك، وتتخلى عن إنسانيتك، ولا يكون لك أي قرار في أي شأن من شؤون الحياة، كبيرها وصغيرها، ولتكن فقط مجرد أداة، لا أقل ولا أكثر، وأنا يا صديقي قد اخترت وانتهى الأمر.
اخترت التضحية بالذات وكل متعلقاتها، ليبقى المبدأ الذي التزمته حياً، وإن مات صاحبه، وانطمست جميع آثاره في الحياة بمعناها الحسي.

أترك تعليقاً

التعليقات