قصاصة من حنايا الكادحين
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -

عندما نخطو في رحاب المشروع ونغوص بين ثناياه وننهل من معينه، نشعر بالحاجة الملحة إلى تمثله بشكلٍ كلي، والانطلاق في ساحة العمل لتنفيذه بحذافيره وتقديمه بكل معانيه وبكل مقتضياته. سينتج عن ذلك وجود الإنسان القادر الواعي المتواضع ذي المعرفة الشاملة في كل مجالات الحياة، والتي توفر لصاحبها القدر الكبير مما يحفظه من الانزلاق ويمنعه من التلاشي والعجز أمام كل التحديات التي يواجهها.
هكذا أفهم المسيرة القرآنية وأجدها زاداً لكل أنواع الجوع وبكل أبعاده، سواء ما يتعلق بالجانب الفكري أم الجانب الروحي أم الاجتماعي وغيره، فالمطلع على ملازم ومحاضرات الشهيد القائد (رضوان الله عليه) بقناعة، والمصغي بتفهم لمحاضرات السيد القائد (حفظه الله) يجد ويلمس أن هذا المشروع الشامل يتجه أول ما يتجه للإنسان، ليبنيه بناءً حقيقياً، فيتمكن ذلك الفرد من الخروج من تحت ركام الفشل والعجز ويتخلص من الرواسب التي علقت بذهنه وشكلت عاداته وحكمت توجهاته، فتمخض عن الغرق بها سلوكه وجرت بموجب اعتبار تلك الرواسب هي الحق تصرفاته وآليات حكمه على الأشياء المحيطة به.
ولهذا كان لزاماً على هذا المشروع أن ينطلق وقبل معالجة الاختلالات المتعلقة بحياة الإنسان كالغنى والفقر والجهل والمرض والاحتلال والحرية والسيادة والاستعباد والاستبداد وغيرها من العوارض التي يصطدم بها الفرد والمجتمع في كل مجالات تحركه ويقرؤها في كل تاريخه ويعايشها في زمنه ووطنه ويشاهدها في المجتمعات الأخرى المحيطة به، قبل أن تنطلق المسيرة القرآنية لوضع الحلول لكل هذه الأشياء ومعالجة المشكلات والاختلالات الناتجة عنها اتجهت لبناء العقيدة وفق تصورات صحيحة وسليمة معتمدة على كتاب الله سبحانه وتعالى ومستندة إليه وسائرة وفق طرقه ومعالمه وأعلامه.
ولكي يكون البناء متيناً قادراً على الوقوف بوجه كل التيارات المنحرفة، ثابتاً بوجه كل العواصف الشديدة، فلا بد من أن تنبني هذه العقيدة على معرفة الله، ليتم بموجب معرفته من قبل هذا الإنسان معطى التعرف على نفسه وما يصلحها وما يفسدها وما يضرها وما ينفعها. وهكذا صححت أول ما صححت الجانب التوحيدي وشرحت مفاهيمه وأبعاده بعيداً عن كل شطط واختلال ناتج عن تصورات ورغبات السلاطين ومطامح وأهواء الوضاعين وإملاءات اليهود والمستعمرين. وعليه كان لا بد من هذه القناعات القائمة على معرفة الله، العاملة على نيل وعده. والحذرة من الوقوع في ما يوصل إلى وعيده، المكونة لخط سيرها بين الخوف والرجاء، كان لا بد لها ألا تظل في زوايا القلوب كمعرفة جامدة، وألا تظل حبيسة الجوانح لا تستدعى إلا في لحظات الانقطاع عن الحياة بكل سبلها، فاتحة للخيال أبواب العيش في فراديس النعيم في زاوية من الزوايا أو متكأً من المتكآت أو هجرة من الهجرات لها سمة القطيعة عن المجتمع وكل ما يعتليه، بل تحركت لتخرج هذا العملاق الكائن في النفس إلى سدة الوجود مقحمةً له مع الطبيعة وكل ظواهرها.
وهكذا نتج عن المنهج الشامل القاعدة المتماسكة والمترابطة والذائبة ببعضها، المتخلصة من كل ما يتعلق بالأنانية وعبادة الذات، والخروج عن "أنا" الإبليسية وكل مترتباتها، ليعيش الجميع همَّ الجميع، ويحمل البعض مسؤولية الكل والكل مسؤولية البعض، وينظر الناس إلى الأحداث النظرة الإيمانية التي لا تعتد بتراتبية التخصصات، ولا تؤمن بوجود دوائر ينقسم الناس بموجبها إلى علماء ومتعلمين وإعلاميين وأدباء وشعراء وسياسيين واقتصاديين واجتماعيين، فقراء وأغنياء، رجال ونساء، كلٌ مسؤول على دائرته ويعيش الخلوص لطبقته دون إعطاء أدنى اهتمام للجوانب والمجالات الأخرى.
وليس ببعيد عنا خطاب سيد الثورة بمناسبة ذكرى الصرخة بوجه المستكبرين، بحيث حدد لنا كيفية التعامل مع المتغيرات والاستقراء للأحداث، إذ شدد على ضرورة التسلح بالإيمان والسير على أساسه من دون الغرق في زوايا التحليلات والاستنتاجات التي لا تعدو عن ظاهرةٍ صوتيةٍ تتغنى بها وسائل الإعلام ويهذي بها المتكلمون وكأنها طبولٌ تقرع في الفراغ دون رؤية أحد من الناس يرقصون على وقع صداها، فالنظرة الإيمانية إلى الأحداث والأشياء تهيئ الأرضية المناسبة لتكامل الوعي وتورث القناعة بوجوب اتخاذ المواقف والتحرك إلى ساحات الاختبار في كل ميادين العمل، وضمن هذه البنية التي تقوم على المنهجية الصحيحة والسليمة والشاملة المربية للقاعدة المتماسكة والمتعاونة والمترابطة، فيسير الكل على أساس منهجية ويخوضون غمار التمحيص في ساحات العمل، وكلما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ازدادوا يقيناً بقرب الفرج والسعة والتمكين، لأنهم انطلقوا على أساس عبودية خالصه لله سبحانه وتعالى، بحيث أصبحت عبادتهم له الأساس الأهم في تربية النفس سواء على مستوى الفرد أم المجتمع أم الأمة. ولما كانت العقيدة سليمة والتربية متكاملة لا تبني الجسد على حساب الروح ولا تهتم بالفرد على حساب المجتمع، كان لا بد من خوض غمار الصراعات والانطلاق في ساحات العمل، لأن بالعمل وحده والنتائج التي تجنى منه نستطيع أن نحكم على صحة عقيدةٍ ما أو فسادها، ومدى نجاحها وفشلها.
وهكذا تقوم الأمة ذات الهدف الواحد، المتمسكة بقضيتها، المستوعبة لموقفها، المقدسة لتضحياتها، لا تعيش عقدة التمايز العرقي أو المناطقي أو الفئوي أو القبلي أو المذهبي، لأن المسيرة علمتنا أولاً أن كل ما يحصرك في زاوية ويحجبك عن القيام بأحسن الأعمال يعد صنماً، عليك تخليص نفسك من الشرك بالله في عبادتك له، سواء أكان شركاً متعلقاً بالجانب العملي أو العقائدي أم كان مسلَّمة من المسلّمات المتوارثة في ما يخص الأسلاف والأعراف، أم في ما يتعلق بالثقافات المغلوطة ونتائجها، فكل ما يحجب عني آفاق معرفة المصير فهو صنم أشركته بالله، شعرت بذلك أم لم أشعر.
لكن وبعد كل ما تقدم لا بد من التصريح بقولٍ ثقيلٍ على النفس ومكدّرٍ للخاطر وباعثٍ للألم، وهو أننا نجد في واقعنا العملي وميدان تعايشنا هوّة كبيرة بين الثوابت القائم عليها أمرنا والمؤسسات العاملة بتسيير أمور شعبنا، فتعامل مؤسسات الدولة مع خطابات السيد القائد وتوجيهاته محدودة بحدود دائرة الانفعال بها لحظة انطلاقها، وعدم إعطائها أكثر من مساحةٍ إخبارية ضمّنت جزءاً منها تقريراً أو حائط صحافةٍ شمل بين جنباته مقالاً. وهذا لا شك دليل على وجود أناس تصدروا المسؤولية وهم غير مقتنعين بما جرت عليه ثورتنا وتحملته قيادتنا وثبت على أساسه شعبنا وقدموا أرواحهم من أجل بقائه شهداؤنا، فليت شعري متى سيستوعب مسؤولو الدولة في "السياسي الأعلى" وحكومة "الإنقاذ" أن درباً نسجت حروفه الدماء الزكية وتحلّقت حوله الفئة المسحوقة والمقهورة والمعدمة لن يطوى بلحظة غفلةٍ من وزير، ولا بساعة احتجابٍ من رئيس، فهل يتوارد إلى أسماع حكومتنا الموقرة ومجلسنا السياسي المحترم أن ثمة في صنعاء قرابة خمسة ملايين إنسان تكاد صنعاء أن تنفيهم عن ظهرها، فقد ضاقت بهم ذرعاً وضاقوا بها لما يجدونه من عسفٍ وظلمٍ وبغي من قبل ملّاك العقارات والمساكن، إذ بات اليوم أولئك يمتصون عَرَقنا كما يمتص العدوان دماءنا، ويفاقمون وجعنا كما بتنا في ظل جشعهم نتمنى الموت فلا نجد إليه سبيلا، فمن سيخلصنا من جشع المؤجرين؟! ومن سيصغي إلى أنين المستأجرين ويخلصنا من هذه الجائحة التي لا تقل بشاعة عن الجرائم المرتكبة بحق أبناء شعبنا من قبل العدوان السعودي الأمريكي؟!
ومن الطريف بهذا الخصوص ما قام به المواطنون قبل أيام من نشر شائعة تداولتها شبكات التواصل الاجتماعي فحواها أن أمانة العاصمة (غير الأمينة) أصدرت قراراً تحدد بموجبه سعر إيجار المساكن المستأجرة وقوانين صارمة تضبط التعامل بين المؤجر والمستأجر، وعندما جاء النفي من أمانة العاصمة بخصوص ذلك أدركت حينها أن الشعب أراد إقناع نفسه بوجود حكومة معدومة الوجود من خلال هذه الشائعة، بل ربما أدرك الشعب أن حكومته تقتصر على الأقوال وليس لديها الجرأة على الأفعال، فأراد تعليمها كيف يجب أن تكون وما الذي يجب عليها أن تفعل.
في الختام: علينا أن نحذر من بذور لخلق عنصريةٍ جديدةٍ وسبل تمهد للتفرقة بين أبناء المجتمع اليمني ومنشؤها طمع المؤجرين وجشع السماسرة من الدلالين وأصحاب مكاتب العقارات، إذ يشترطون المسؤولية على من أراد أن يستأجر مسكناً ألا يكون من المنطقة الفلانية، فتلك المنطقة لا حق لأبنائها في السكن ولا في الوجود، المهم أبناء المنطقة الأخرى! وهذا مرض اجتماعي جديد منشؤه الغفلة ولا سبيل لمواجهته إلا بحزم وجدية في تحمل.

أترك تعليقاً

التعليقات