وهكذا هي (لا)
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
مهما كانت الظلمة والمأساة، فإننا سنتجاوزهما، وبالذات حينما تبرز أقلام الثوريين الثابتين من تحت الركام، مسطرةً بالدم أبجدية البناء للأرواح الخارجة للتو من جدث الفناء، مثبتةً على ظهر هذا الكوكب دعائم العودة إلى شوط الحياة النضالية التي لا تنتهي، ولا حد لآمالها وآلامها، ولا فواصل بين المدامع والابتسامات، والفرحة والمأساة.
هذه الأقلام الرائية بنور الشهداء نقطة الخلاص، والممسكة بحبل الزمن بيد الثقة بوعد الله؛ تتقحم المخاطر، وتدوس فوق مفارز الموت، لتفتح القلوب والعقول على المستقبل المشرق بشمس الظهور والتمكين، تفعل كل ذلك وهي تصول وتجول فوق الأنقاض، وتتنقل بين الأطلال التي تحكي وحشية الهدم والدمار، وتشهد على مدى الإجرام والعلو في الأرض لكل فراعنة التاريخ، الذين هدموا ماضينا وحاضرنا، فسلبونا الإحساس بذواتنا ناهيك عن الإحساس بمَن حولنا، أو بالزمن الذي يطوي صفحات كتاب أعمارنا واحدةً تلو أخرى.
من هذه الأقلام تجلى قلم ابن الأبجدية (صلاح الدكاك) الذي لم يقف على التخوم من كل معترك، ولم يتوسل الجلوس على التل في ظل السلطان، ولم يسع لخطب ود القصور بغية الحصول على ما تزخر به موائدها، بل كان الشعبي مع شعبه، والوطني يحمل انتماءه له كخشبة تكاد تتحول إلى رافعة ليصلب عليها، والمتوسد لرصيف المعاناة اليومية للناس، الشريان المتصل بقلوب المستضعفين لينقل ما يختلج فيها. قلمه سيفٌ ذاق حمامه الأعداء في كل جبهة، وحارسٌ لمكتسبات وقيم ومبادئ ثورة الحادي والعشرين من أيلول من لصوص الداخل، سراق الحاضر، المتربصين بالغد، العقبة الكأداء أمام البناء والتغيير. لم يمسح جوخا، ولم يلبس الحق بالباطل، فإن قال؛ فعلى نهج أبي ذر، وإن والى فاقتداءً بمالك النخعي، وإن ثار فعلى طريق الحسين.
ولا غرابة أن تكتسب كلماته وأفكاره كل هذا الصفاء والكمال، فهو ابن الأبجدية، فقد قال: هذه الأبجدية أمي. ذاك القول لم يكن اسماً لديوانه الأول، بل إطاراً مرجعياً لكل كتاباته شعراً أو نثراً. وفي زمن عقم الأرحام عن إنجاب الرجال، يأتي مبشراً بوجود ألف ليلى وليلى، لا كمجموعة قصائد تضمنها ديوانه الثاني؛ بل كأسس ومسلمات يجري وفقها العمل المقاوم، وتتعزز بموجبها قوة المسار الثوري.
وها هو يعيد بثالث أبناء قلبه بناء ما تهدم في النفوس، ويركز قواعد البقاء في ميدان الحقيقة بديوانه هذا (بناءً على ما تهدم) وهو كسابقيه يعكس الرفض للبقاء على الأطلال، ويلملم شتات الذات المتناثرة أشلاؤها في مدن الدمار والخراب، ليعيد بناءها على أنقاض الماضي كي يحتوي مرارة ما كان، ليخرج منه إلى الحاضر موجداً مناعة الوعي بكيفية صياغته، لنتجاوز عثراته نحو الغد.
وهكذا هي (لا) بطاقمها الكربلائي الشاهد والشهيد، الذي تلمس في عطاء كل فرد فيهم ضياء نَجْمٍ مخرجاً للناس مِن مغبة التيه، والبقاء تحت سقف العَدَمِ، وهم المنشدون للغد ألحان الفرح، كأنهم عَصَافِيرُ سِرٍّ توقظ المستسلمين للنوم فِي عتمة الكواكب.
إنهم يتمردون على كل قيد، ويجمعون من حرائق كل روح حرة هَشِيمَ الأسئلة، وهم الذين يُصْغُونَ لتعاليم الله وهيَ تَتَرَدَّدُ فِيهِم، كأنهم الرَّعْشَةُ الأُولَى في جسد الفجر، وَالشَّظَايَا المتناثرة من كل قلب يحن إلى وجود وطن حقيقي.
إنهم يُفَتشُونَ في الرَّمَاد عن جمرة لم تنطفئ بعد، وَفِي الشُّقُوق عن نَهْرٍ لَمْ يُسَمَّ بَعْدُ. تَتَكَسَّرُ أَعْمَارُهُمْ عَلَى صُخُورِ الوَقْتِ، ثُمَّ يَنْهَضُونَ لِيُعِيدُوا لِلكلمة قدسيتها ومَعْنَاهَا.

أترك تعليقاً

التعليقات