أقسام المثقفين: إطلالةٌ أخيرة
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
سبق أن استعرضنا في المساحة الماضية قسمين من المثقفين، كلاهما يلعب دوراً بالغ الخطورة على الحياة والإنسان، ولا يخفى على ذي لب أن كل الأزمات والكوارث والمشكلات التي تمر بها المجتمعات يسهل عليها الخروج منها، والتخلص من آثارها وتبعاتها خلال فترة زمنية وجيزة، ما عدا تلك الأزمات والكوارث والمشكلات التي تصيب الفكر، وتشوه القناعات والمعتقدات، وتعطل الإرادة، وتعمل على تبلد الحس، وإفساد الذوق، وإماتة الضمير، ومسخ الذات، فالخروج منها إذن ليس بالأمر السهل، حتى وإن تم لنا الخروج منها خلال مدة زمنية معينة، فإن هناك تبعات وآثارا لها ستبقى أطول مدةٍ زمنيةٍ ممكنة، إذا لم تجد مَن يتتبعها، ويحرص على قتلها في مهدها، فإنها ستعمل على استعادة الأصل الذي انبثقت منه، وبالتالي سيأتي اليوم الذي نصحو فيه على خبر عودة الماضي المظلم بكل رموزه ونظمه ومعاييره وأفكاره وممارساته إلى الواجهة مجدداً، ولو عن طريق الاستنساخ لوجوه جديدة، تحل محل مثيلتها التي بادت وانتهت عن آخرها من ساحة الحياة.
من هنا تتجلى أهمية الموضوع الذي لانزال بصدد الكشف عنه، والذي يحتم علينا أن نسير معه خطوةً خطوة، حتى النهاية.
بقي أمامنا ثلاثة أقسام للمثقفين كما وردت لدى أكثر من باحث ومفكر، وهي:
* مثقفون نرجسيون، وهم وإن امتلكوا رصيداً علمياً كبيراً، وحازوا على صنوف من المعارف العميقة، فسيظلون يعيشون في أبراجهم العاجية، ولن يغادروها حتى الممات، والحقيقة أن هؤلاء لم يكن هدفهم من وراء التحصيل العلمي والمعرفي العمل بهما، وإنما الهدف من وراء ذلك هو الوصول إلى المقام الذي يمكنهم من التعالي على الآخرين، والعمل على تسفيه وتخطئة ومقت كل الأفكار الصادرة عن سواهم، وهكذا يظلون مسجونين بصندوق الأنا أو النحن، ما بقي فيهم رمق من حياة، فتفقد علومهم ومعارفهم معناها، إذ عجزت عن إصلاح وتغيير حامليها، فكيف ستقوم بتغيير محيطها، والناس من حولها؟
 مثقفون انطوائيون، فضلوا الانكفاء على ذواتهم، وحركوا ثقافتهم الغزيرة في الفراغ، نتيجة التزامهم المثالية المفرطة كنمط للعيش، ولذلك يصطدمون بالواقع دائماً، فيعودون للعيش المنقطع إلى الكتب، بدلاً من العيش مع الناس، والذي إن أبدوا وجهة نظرهم في ما هم فيه، فإنهم لا يقدمون سوى مثاليات لا علاقة لها بالواقع، ولا قدرة لها على التأثير فيه، باعتبارها ميتة، لم تقم على أساس التأمل الواعي، الذي يسعى لاستنطاق وفهم حركة الحياة والأحياء.
 المثقفون الميدانيون، وهم الذين يمتلكون إلى جانب الرصيد المعرفي والعلمي الوازن: روحية المجاهد الحاضر دوماً في ساحات القتال، لذلك استطاعوا الموازنة بين ما هو كائن، وبين الذي يجب أن يكون، الأمر الذي جعلهم في موقع الساعي لإصلاح كل الاختلالات، المستعد لتصدر ميدان التصدي لكل الانحرافات والجهالات والأكاذيب والترهات، والسلوكيات والتصرفات المقيتة، وهم القريبون من المجتمع، الحاملون لأمانة النهوض به، والدفاع عنه، لا تقعدهم عن ذلك إغراءات سلطوية، ولا تعوقهم استفزازات نخبوية، ولا تفسدهم سعة الحاضنة الشعبية، ولا يرضخون أمام كثرة التهديدات، وتنوع وتعاظم الاستهدافات والمضايقات التي تقع عليهم، لقد أدركوا مهمتهم، في حفظ الثورة، فكانوا في قلب المواجهة، متمردين على الواقع وشروطه، بغرض تجاوزه، ورفضاً لقبوله أو التكيف معه، ولا مكان لديهم لليأس، مهما اشتد الحصار لهم، وارتفعت كلفة الثمن الذي يدفعونه، بسبب الثبات على موقفهم، والوفاء لفكرهم وقضيتهم وأمتهم.

أترك تعليقاً

التعليقات