أولى العلامات
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
جميعنا يتحدث عن ضرورة إقامة العدالة، وتشييد بنيانها في الواقع كله ، إلى المستوى الذي يجعلها صفة ملازمة للفرد والمجتمع، للرئيس والمرؤوس، للشعب والدولة.
وهذا نابع من التزامنا خط الإسلام المحمدي الأصيل، وإيماننا بمبدأ الولاية المبدأ الذي لو عرف الناقمون عليه، والنافرون منه، ماذا يعني ، لجالدوا على تطبيقه وعضوا عليه بأسنانهم وأظافرهم فهو العدالة، المساواة ، الخدمة ، حفظ الحقوق، صون الكرامات، والتزام «الإمام علي فكرا وحركة ، سياسة واجتماعا . الولاية ليست عبادة لعرق ، ولا رفعاً من شأن أسرة وجعل الآخرين أدوات لخدمتها الولاية عدالة، رحمة ، رفع من شأن الناس بكل . أجناسهم ، جعل الحاكم والمحكوم سواء ، باعتبارهم عبيدا لله . ولكن يا ترى هل سنظل نزعم الارتباط بالإمام علي، ونحن لا نزال بعيدين عنه ؟! إذ إن أول علامات الاتباع له وتوليه هي: إقامة العدالة كبنية ومنظومة ، لا الاكتفاء بالحديث عنها كمثال ، أو مجرد شيء هناك في عالم التجريد.
السعي وراء العدالة أمر مؤثر دائماً ، له قصة، وضحية، وظالم، و دراما أخلاقية تثير حماس الجمهور. فالصرخة ضد ظلم صارخ ، أو فضح فساد، أو الدفاع عن مظلوم ، تُخلف صوراً تلهم الروحوتحرك المشاعر .
لكن في اللحظة التي يغمر فيها الناس الغضب أو الشفقة، يتكاثر البناء الذي يولد القمع نفسه بصمت . العدالة شفاء من الأمراض والندوب العامة والخاصة. وبهذا المعنى فإنها ما تزال بعيدة . وكلما أوردناها في خطاب وعظي وجدنا جرحاً في جسد لا يزال المرض فيه مستمرا.
السعي وراء العدالة في عالم المثل ، كالبرق؛ يضيء؛ لكنه لا يدوم. فرغم أنه أحياناً يولد وعياً أو يُصحح الأمور بشكل طفيف إلا أنه غالبا ما يخفي المشكلة ظاهريا ، بدلا من معالجة جذورها . لماذا؟ لأن العدالة كفكرة ترى في الحدث، لا في النظام. أما لكي تدوم، فلا بد أن تتحقق في بنية العلاقات»، وفي المؤسسات وفي قواعد إنتاج وتوزيع السلطة والثروة، وفي تكوين العقلانية الجماعية ... لا في الانفعالات العاطفية كحالات عابرة .
العدالة الهيكلية هادئة، غير مزعجة؛ لكنها عميقة، لا تحظى بجاذبية إعلامية؛ لأن مضطهدها بلا وجه ، بلا اسم؛ لكن عدوها متجذر في القوانين، وفي نظام إنتاج وتوزيع الثروة، وفي طريقة تفكير البشر. تسعى العدالة الهيكلية إلى تغيير هذه البنية الظالمة، وليس مجرد معاقبة هذا الفرد الظالم» .
تسعى العدالة الانفعالية إلى فضح الظالم، في حين تسعى العدالة البنيوية إلى جعل الظلم مستحيلا.
من منظور العدالة الإنفعالية، تُعدّ العدالة نموذجاً أخلاقياً؛ فلا بد أن يكون هناك خطأ ما لكي يكون لهذا النموذج معنى. أما من المنظور البنيوي، فالعدالة جوهر وجودي ، وقضية مؤسسية؛ إذ يجب تنظيم المجتمع البشري بشكل مختلف عما هو عليه اليوم ليتمكن البشر من بناء عالم عادل ، دون الحاجة إلى أبطال يسعون إلى العدالة. العدالة الانفعالية تبحث عن أبطال، والعدالة الهيكلية تبحث عن قانون العدالة الانفعالية تبحث عن صرخة استنكار، والعدالة الهيكلية تبحث عن فهم .
إذا فصل السعي وراء العدالة المثالية المجردة عن العدالة البنيوية، فسيصبح الواقع مجرد مسرح يشهد عرضاً مسرحياً هزيلا يروي الوهم والخرافة، ويصبح المنبر الداعي إلى العدالة سوقاً للتزاحم والكشوفات والاتهامات والضحايا، تتغذى على عواطف الناس. لكن السعي وراء العدالة البنيوية ، وإن كان بطيئا ومعقداً، فإنه ينقذ الناس من أسر الأخلاق اللحظية، ويدعوهم إلى التفكير في شروط إمكانية العدالة .
إذا تحققت العدالة الهيكلية فلن يكون السعي وراء العدالة المجردة ضرورياً؛ لأن الآليات» مصممة لتحييد الظلم قبل وقوعه . وكما أن الجسد السليم لا يحتاج إلى ضمادات ، فإن المجتمع العادل لا يحتاج إلى مبلغين عن المخالفات العدالة الانفعالية هي مجرد رد فعل عرضي وطارئ على مجتمع ظالم في بنيته. إنها أعراض كالحمى في جسد مريض. أما العدالة الهيكلية فهي بنية الصحة ، تصميم الجسد الاجتماعي، بحيث لا يتكرر المرض، فلا يعرف الحمى .
المجتمع الذي يسعى للعدالة في الأمثلة يحتاج دائماً إلى مخلص . أما المجتمع الذي يسعى للعدالة في البنية فقد بلغ نضجاً فكريا . العدالة في المثال تبحث عن بطل يأتي ليرفع الظلم. أما العدالة البنيوية فتمنع حدوث الظلم أساساً .
باختصار: العدالة الانفعالية المثالية هي صوت الألم. أما العدالة البنيوية فهي علاجه . صوت الألم، وإن كان نبيلا ، فإنه إذا لم يُفض إلى الشفاء ، يصبح جزءا من المرض نفسه . إن المجتمع الذي يكتفي بالصراخ من أجل العدالة دون إزالة أسس الظلم وبنيته، محكوم عليه بتكرار تلك الصرخات بلا نهاية .

أترك تعليقاً

التعليقات