«محفوظ عجب».. وجوه تتكرر!
 

بشرى الغيلي

بشرى الغيلي / لا ميديا -
من بين الصفحات التي قلبتها في إحدى ليالي العمل الطويلة، بقي اسم واحد يُطلّ عليّ كلما فتحت مسودة جديدة: «محفوظ عجب». لم يكن حضوره عابراً. بدا وكأنه يقف عند حافة شاشتي، يراقب المفردات وهي تتجمع لتصنع خبراً أو تحقيقاً، تماماً كما راقب خطواته الأولى في «دموع صاحبة الجلالة» وهو يشق طريقه من الهامش إلى مركز الضوء في رائعة الكاتب موسى صبري، الذي لا شك أن كل صحفي مرت عليه وقرأها.
كنت أقرأ الرواية وكأنني أتابع ظلاً يتنقل بين أروقة المهنة، ظلاً يعرف جيداً كيف يُراوغ، كيف يتكيّف، وكيف يختار كلماته وفق العائد المتوقع منها، لا وفق ما تقتضيه الحقيقة. ومع كل صفحة، كنت ألمح المفارقة: شخصية وُلدت في الخيال، لكنها لا تزال قادرة على إيجاد نسخ جديدة لها في واقع تتسع فيه المنصات وتتغير قواعد اللعبة كل يوم.
ربما لهذا تحديداً يعود «محفوظ عجب» إلى الواجهة: ليس ليحتل مكاناً، بل ليكون معياراً مضاداً. كلما ظهر وجه يشبهه، ظهر في المقابل وجه آخر يناقضه.
المفارقة أن الصحافة نفسها، بكل تقلباتها، استطاعت دائماً أن تخلق هذا التوازن، ولو بطريقة غير مباشرة؛ فكلّما تمدد خطابٌ صاخب يعتمد على التلاعب والانتهاز، وُلد في المقابل خطاب أكثر هدوءً لكنه أثبت حضوراً.
سابقاً كان الصعود من خلال الصحف المطبوعة أكثر بطئاً، وأكثر كشفاً للخطوات. اليوم لا يحتاج «محفوظ عجب» إلى غرفة تحرير، ولا إلى رئيس قسم، ولا حتى إلى ورق، يكفيه حسابٌ نشط، و»لايكات»، وركوب موجة «الترند»، والتمسّح بأجواخ المحسوبين على المصلحة العامة. النجومية لم تعد تُصنع من التحقيقات الشاقة، بل من حضور إلكتروني يعرف كيف يطبّل ويصقل صورته قبل أن يصقل مادته.
رغم ذلك لم تكن المشكلة يوماً في المنصات ذاتها، بل في الطريقة التي تُدار بها المهنة حين تتحول الإتاحة الواسعة إلى فرصة لتخفيف المعايير بدل توسيعها.
هنا، يصبح «محفوظ عجب» أكثر قدرة على الحركة: يتنقل بين وسيلة وأخرى، ينشر ما يناسب اللحظة، ويُخفي ما قد يثقل صورته، يكتب ليُرى، لا ليكشف.
إن متابعة شخصية مثل «محفوظ عجب» ليست مجرد استرجاع لرواية فحسب، بل محاولة لقراءة المشهد الراهن عبر مرآة قديمة؛ مرآة تُظهر أن التسلّق والانتهازية تتطور بقدر ما تتطور الأدوات؛ لكنها لا تلغي القيمة الأصلية للمهنة، تلك الرغبة الدائمة في الإمساك بالخيط الدقيق بين ما يُقال وما يجب أن يُقال. وبين كتابة تقرير عابر، وتحرير مادة تمضي إلى النشر دون صخب، تظل هذه الفكرة حاضرة، الصحافة مهما تغيّرت وسائطها، لا تزال قادرة على كشف «محفوظ عجب» كل مرة؛ لا بالصراخ عليه، بل بتقديم بديله الحقيقي.
ومع هذا كلّه تظل المهنة تحمل وجوهاً أخرى، وجوهاً لا تلتفت كثيراً إلى الأضواء ولا تُعلن عن نفسها، وجوهاً تكتب لأن الكتابة بالنسبة لها ليست سلّماً، بل مساحة لفهم العالم. هؤلاء لا يصنعون جلبة؛ لكنهم يتركون أثراً يشبه الخط الرفيع الذي يمرّ عبر النص، ذاك الخط الذي لا يصرخ بالحقيقة، لكنه يثبت جوهر الصحفي الحقيقي، الذي جعل أخلاقيات المهنة تجري مجرى الوريد، ليقدم رسالته دون تملقٍ لأحد.

أترك تعليقاً

التعليقات