تحوّلات الإدراك «الإسرائيلي» تجاه اليمن.. من فشل الردع إلى استراتيجية المواجهة الطويلة
- أنس القاضي الثلاثاء , 18 نـوفـمـبـر , 2025 الساعة 12:08:08 AM
- 0 تعليقات

أنس القاضي / لا ميديا -
نتناول في هذا الحيز قراءة تحليلية لمقال بحثي نشر في السادسِ عشرَ من تشرين الأول/ أكتوبر 2025 بعنوان «إسرائيل بحاجةٍ إلى استراتيجيةٍ أفضل لهزيمة الحوثيين في اليمن»، وهو من إعداد داني (دينيس) سيترينوفيتش، الباحثِ الأوّل في «برنامج إيران والمحور الشيعي» التابع لـ»معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي» (INSS)، أحد أبرز مراكز التفكير التابعة للمؤسسةِ الأمنية والعسكرية في كيان الاحتلال.
يُعَدّ سيترينوفيتش من أبرز ضبّاط الاستخبارات «الإسرائيليين» السابقين، حيث شغلَ خلال خمسةٍ وعشرين عاماً مناصبَ قياديةً في وحدات الاستخبارات «الدفاعية»، من بينها رئاسةُ فرع إيران في قسم الأبحاث والتحليل، وممثلُ القسم في الولايات المتحدة، وهو ما يمنحُ كتاباته طابعاً يعكسُ تفكيرَ النخبةِ الأمنية «الإسرائيلية» وصناع القرار في الكيان الصهيوني.
كثيراً تُمثّلُ المقالةُ موضوعُ هذه الدراسةِ نموذجاً واضحاً للخطابِ «الإسرائيلي» المستجدّ تجاه اليمن؛ إذ تُظهرُ تحوّلاً من النظرةِ الاستعلائية إلى التعاملِ الواقعيّ مع صنعاء كقوةٍ إقليميةٍ فاعلةٍ في معادلةِ الردع، وتكشفُ عن ملامح استراتيجيةٍ «إسرائيلية» جديدةٍ تسعى لإعادةِ صياغةِ أدواتِ المواجهةِ مع اليمن في البحر الأحمر والساحةِ الإقليمية.
إدراك العدو لطبيعة الصراع
تُظهر المقالة أنّ مراكز التفكير «الإسرائيلية» وصلت إلى قناعة بأنّ صنعاء لم تعد ظاهرة محلية مرتبطة بـ»الأزمة اليمنية»، بل أصبحت جزءاً محورياً من منظومة الردع الإقليمي التي تُواجه الكيان الصهيوني في البحر الأحمر والمشرق. فصنعاء -وفق القراءة «الإسرائيلية»- تحوّلت إلى جبهة مواجهة متقدمة لمحور المقاومة، قادرة على استنزاف «تل أبيب» وتهديد طرقها البحرية الحيوية.
هذا الإدراك يعني أن «إسرائيل» باتت تتعامل مع اليمن كفاعل إقليمي مستقل في معادلة الردع، وليس «كذراع إيرانية» فحسب كما كان تصورهم سابقاً، وهو تحوّل نوعي في النظرة الأمنية الصهيونية إلى صنعاء تجعل سياستهم أكثر عدوانية تجاه اليمن.
الاعتراف «الإسرائيلي» بفشل الردع
يقرّ المقال بأنّ الضربات الجوية التي نفّذها العدو ضد منشآت يمنية منذ تموز/ يوليو 2024 -في الحديدة وصنعاء ومرافق الطاقة- لم تُضعف القدرات اليمنية، بل منحتها زخماً شعبياً أكبر. ويرى الباحث أنّ النهج العسكري «الإسرائيلي» أخفق في تحقيق توازن الردع الذي تطمح إليه «تل أبيب» على غرار تجربتها مع حزب الله وحماس.
بمعنى آخر، يعترف «الإسرائيلي» بأنّ صنعاء استطاعت امتصاص الكلفة الاقتصادية والميدانية، وحوّلت العدوان إلى عنصر من عناصر تعزيز الشرعية الثورية داخلياً وخارجياً.
ملامح التفكير «الإسرائيلي» الجديد تجاه اليمن
من خلال المقال يمكن تلمّس الملامح الرئيسة لما يسعى الكيان إلى بنائه من مقاربة طويلة الأمد، تقوم على ثلاثة محاور مترابطة:
محور استخباراتي:
يعترف الكاتب بضعف الفهم «الإسرائيلي» لبنية القوة في صنعاء، سواء على المستوى العسكري أو القبلي. لذلك يدعو إلى بناء جهاز استخباراتي مخصّص للتغلغل في البيئة اليمنية، ورصد مواقع الإطلاق والقيادات الميدانية؛ باعتبار ذلك مدخلاً لإعادة فرض الردع.
محور عسكري - بحري:
كاتب المقال يطالب بإنشاء وجود «إسرائيلي» فعّال (توسعي) في البحر الأحمر لتأمين حرية الملاحة الصهيونية، وشنّ عمليات دقيقة ضد القدرات اليمنية متى ما تطلّب الأمر، ما يعني أن الكيان يسعى لفرض حضور عسكري مباشر في المجال البحري اليمني تحت مظلة التحالف (الأمريكي - الخليجي).
محور سياسي - تحالفي:
الكاتب يدعو إلى توحيد الجهود العدوانية مع السعودية والإمارات، ومع أدواتهما من المرتزقة في الجنوب اليمني والمحافظات المحتلة، وخصوصاً ما يسمى «مجلس القيادة الرئاسي»، لإيجاد بديل سياسي موالٍ يُسهم في تطويق سلطة صنعاء وإضعافها.
وهنا يظهر أن الرهان «الإسرائيلي» يتمحور حول تحويل الجنوب والمناطق المحتلة إلى قاعدة عمليات مشتركة ضمن منظومة التطبيع الأمني (الخليجي - الصهيوني).
الأهداف الاستراتيجية «الإسرائيلية»
من بين السطور تتضح مجموعة أهداف كبرى يسعى الكيان لتحقيقها تجاه صنعاء، وفي مقدمتها إضعاف القدرات الوطنية اليمنية الذاتية، عبر تعطيل منظومة الإنتاج العسكري المحلي، ومنع تطوير التكنولوجيا الصاروخية والطائرات المسيّرة، وقطع خطوط الإمداد الدولية - المُفترضة بحسب الكاتب، خاصة مع إيران والصين، لحرمان صنعاء من التكنولوجيا والمكونات الدقيقة، وكذلك احتواء النفوذ اليمني البحري، وضمان أن تبقى الممرات بين باب المندب و»إيلات» (أم الرشراش) مفتوحة دون تهديد من القوات اليمنية، ومنع صنعاء من التحول إلى مركز قيادة مستقل للمحور المقاوم، وهو ما بدأ يتحقق فعلاً من وجهة النظر «الإسرائيلية» بعد تراجع أدوار حزب الله والحشد العراقي في مهاجمة الكيان.
الإقرار بخطورة بقاء صنعاء في السلطة
يصرّ المقال على أن «ما دام الحوثيون في السلطة فإن التهديد الإسرائيلي سيستمر»؛ لأنهم -بحسب التعبير «الإسرائيلي»- باتوا يعتبرون أنفسهم مدافعين عن الأمة وعن المسجد الأقصى. هذا الإقرار يكشف أن «تل أبيب» لا ترى خطراً عسكرياً فحسب، بل خطراً أيديولوجياً وقومياً متجذّراً في العقيدة الإسلامية والوطنية اليمنية، لذا فإنها تطرح ضرورة «استبدال النظام في صنعاء» عبر حلفاء الجنوب كهدف بعيد المدى.
معالم الهوس «الإسرائيلي» بصنعاء
اللغة المستخدمة في المقال تعبّر عن حالة قلق متصاعد داخل الدوائر الصهيونية من صعود اليمن كقوة ردع جديدة. فاليمن -من منظورهم- لم يعد تابعاً في معادلة المحور، بل مبادراً ومؤثراً في الميدان.
ويعتبر الكيان أن أي وقف لإطلاق النار في غزة لن يُنهي مواجهتها مع صنعاء؛ لأن اليمن أصبح يرى نفسه حامياً للمقدسات ودرعاً للمقاومة الإقليمية، ما يجعل الصراع مع الكيان صراعاً وجودياً، لا ظرفياً.
يُظهر المقال أن العدو الصهيوني بات يعترف بواقعٍ جديد: صنعاء أصبحت فاعلاً استراتيجياً لا يمكن تجاوزه في معادلة الأمن الإقليمي، وأن الحرب معها تحتاج إلى خطة شاملة تتجاوز الغارات إلى مشروع حصار وتغلغل طويل الأمد.
هذا الإدراك «الإسرائيلي» يعبّر عن فشل كل محاولات الردع السابقة، وعن خوفٍ عميق من تحوّل اليمن إلى مركز ثقلٍ جديد في محور المقاومة، يمتلك القدرة والإرادة والإسناد الشعبي لمواصلة الصراع ضد الاحتلال حتى في حال توقف المعارك في غزة أو لبنان.
تقديرُ الموقفِ
تُبيّن المقالةُ بوضوحٍ أنّ الكيانَ الصهيونيَّ دخلَ مرحلةَ إدراكٍ مُتأخّرةٍ لطبيعةِ المواجهةِ مع صنعاء؛ إذ لم يَعُد يرى اليمنَ ساحةً ثانويةً أو هامشيةً، بل مركزَ ثقلٍ جديدٍ في معادلةِ الردعِ الإقليميّ؛ فبعد فشلِ العدوانِ في تحقيقِ ردعٍ عسكريٍّ أو سياسيٍّ، أصبحَ التفكيرُ «الإسرائيلي» يتّجهُ نحوَ بناءِ منظومةِ تطويقٍ بعيدةِ المدى تستندُ إلى ثلاثةِ أعمدةٍ: حصار استخباراتيّ، وجود بحريّ مباشر، وتحالف مع الأنظمةِ الخليجيةِ العميلةِ لتطويقِ سلطةِ صنعاء.
يَكشفُ هذا التحوّلُ أنّ العدوَّ الصهيونيَّ باتَ يتعاملُ مع اليمنِ كتهديدٍ استراتيجيٍّ دائمٍ، لا كفاعلٍ تابعٍ لإيران. ويُدركُ أنّ كلَّ ضربةٍ عسكريةٍ على البنيةِ اليمنيةِ تُقابَلُ بتماسكٍ اجتماعيٍّ وتنامٍ في الشرعيةِ الثورية، لهذا يسعى اليومَ إلى حربِ استنزافٍ طويلةٍ تدمجُ الأدوات الأمنيةَ والاقتصاديةَ والسياسيةَ في محاولةٍ لإضعافِ القدراتِ الوطنيةِ اليمنيةِ ومنعِها من ترسيخِ وجودٍ فاعل في البحرِ الأحمر.
في المقابل، تكشفُ لهجةُ المقالِ عن اعترافٍ ضمنيٍّ بأنّ اليمنَ باتَ رقماً صعباً في معادلةِ الصراعِ (العربي - «الإسرائيلي»)، وأنّ الكيانَ يخشى تحوّلَ صنعاء إلى مرجعيّةٍ مقاومةٍ جديدةٍ قادرةٍ على نقلِ المواجهةِ من حدودِ فلسطينَ إلى عمقِ البحرِ الأحمر.
وبالتالي، فإنّ المرحلةَ المقبلةَ مرشّحةٌ لمزيدٍ من التوتّرِ البحريّ والأمنيّ، إذ ستسعى «تل أبيب» إلى تثبيتِ حضورٍ عسكريٍّ غيرِ معلَنٍ في الممرّاتِ المائيّة، بينما ستواصلُ صنعاءُ ترسيخَ معادلةِ الردعِ البحريّ والسيادةِ الوطنيةِ الكاملةِ على امتدادِ الجغرافيا اليمنيّة.










المصدر أنس القاضي
زيارة جميع مقالات: أنس القاضي