عصا «العدالة» بظهر القاضي
 

عمر القاضي

عمر القاضي / لا ميديا -
كان أبي عبدالعزيز مدرس اجتماعيات، يعني يدرس مواد التاريخ والجغرافيا والوطنية، وكان يدرس صف رابع وخامس، وقد درست عنده في هذين الصفين.. أما حادثة الضرب فقد وقعت عندما كنت أدرس في صف خامس.
ففي أحد الأيام وصل أبي إلى الفصل، وبدأ بضرب جميع الطلاب، ولا أذكر سبب الضرب. المهم الفصل كله تعرض للضرب وأنا أحدهم. أقسم لكم إن أبي نادرا ما كان يضرب.
بعد أن ضرب الفصل كله، طالب كان يقعد في الصف الأول اسمه أحمد كديشه ولقبه الأصبحي، رفع يده، أبي قال له: أيش تشتي؟ قال: يا أستاذ عبدالعزيز أنت ما ضربت ابنك (الذي هو أنا).. يا ابن الكـ...ب على محارش، أقسم بالله إنه لبجني معاهم، والطالب يكذب. حلفت لأبي وقلت له: لا تصدقه قد ضربتنا بالعصا وباليدين كمان.
أبي معروف أنه اشتراكي عتيق (الله يحفظه)، وبالتالي لا يمكن أن يمر كلام الطالب أحمد مرور الكرام، طالما أن أبوه رفيق أبي وصديقه، وكمان أبوه يشتغل موقص حجار في تعز، يعني كادح.
حينها قال أبي للطالب: اخرج جيب عصا زي الناس.. ما عاد اقتنع بالعصا الأولى.. يا ليلة الجن على عمر، قال له عصا زي الناس! أمانة كانت رجولي يرتقلين ويخضلين فوق الكرسي خوف، وكأننا قاعد في سيبيريا المثلجة.
خرج الطالب مباشرة يدور عصا، أبي ظل ينتظره سارح راجع، يخرج من الفصل للطارود عشان يشوف أن الطالب كديشه ما ظهرش! ورجع مرة ثاني للفصل يقول لي: قوم قوم يا ابني، قوم وارفع يداتك. أنا قمت أستعد للعقوبة التي لا مفر منها.. كنت وقتها أدعي وأقول يا الله إن أحمد كديشه ما يرجع، يا الله ما يحصل عصا، يا الله أنه يهرب وما يرجع المدرسة.
أبي منتظر سارح مروح، وكلما رجع للفصل يطلب مني أن أرفع يداتي. أبي يشتي ينفذ العدالة الاجتماعية التي درسها في معهد باذيب بعدن، والآن أجا وقت تنفيذ العدالة فوق عمر ابنه.
وصل أحمد كديشه أخيراً، وهو يحمل في يده عصا عِلب أخضر وماتزال الشوك عرضها، يا ساتر أنا والعدالة الاجتماعية التي بتبدأ الآن.
كانت في البداية رجولي لحالهن يختضلين، وتطورت الخضلة لليدات، ماعد قدرت أرفعهن، تطورت الخضلة للجسم كله، القلب كان ينبض ضعفين يعني 140 دقة بالدقيقة، جلست أحدث نفسي واتحلف بأحمد هكذا: طيب يا أحمد كديشة، إذا ما ألبج أبوك في الراحة ما أكون أنا عمر.
أبي تناول العصا من أحمد وقال له: اجلس.. ثم اقترب مني وقال لي: مد يدك.. وهات يا خبط، وكنت كلما قبضت يدي، يقول لي: افتح يدك يا ابن الكلب.. يا ساتر على ضرب حصلت.
لقد بكيت، ومن شدة الضرب والرعب حق العدالة الاجتماعية بركت إلى تحت الكراسي. أبي لحقني خبط بالظهر، ثم رفعني لفوق المقعد وتوقف، وأتذكر أنه بعد أن رفعني توقف، قال لي: يا ابني معليش تحمل، بيقولوا عني أننا ما اضربش ابني مع الطلاب، قال لي هذه العبارة وهو زعلان وحزين علي. وبعدها وعدني أنه بيطلعني معه مدينة التربة بالسيارة كمصالحة مقابل الضرب. فقد كانت زيارة المدينة بالنسبة لنا حلماً.
وقت الضرب كنت أسمع أحمد كديشه وهو يقول: زيده زيده. وبعد أن سحبني أبي من تحت الكراسي، قعدت، ثم التفت لأرى الطالب الوغد أحمد كديشة وهو مستمتع.
عاد أبي باتجاه السبورة يكتب ويشرح، بينما أنا استمررت أبكي وسط الفصل. أبي كان مقهور علي، وقد لاحظت ذلك، وكل شوية كان يهديني ويقول لي خلاص يا ابني أنا باشتريلك الذي تريده من التربة، لكنه لم يستطع إيقافي عن البكاء.
بعدها حان الوقت لمسح السبورة، فكان أبي يدور المسّاحة الإسفنجية، وفجأة ذكر أنه أعطاها في اليوم السابق لأحمد كديشة يخبئها معه، أحمد كديشة روح المسّاحة معه ونساها بالبيت.
فقال له أبي: أمس أعطيتك المسّاحة.. صح؟
قال أحمد: أيوه، بس نسيتها بالبيت يا أستاذ عبدالعزيز.
أبي قفز لفوق أحمد وخبط الطاولة: يا تافه تنسي المسّاحة. أذكر أحمد كان يرتدي سماطة حمراء على رأسه، أبي نتعها من فوق رأسه وذهب يمسح بها السبورة. وأثناء ما كان يمسح استمر يوبخ أحمد كديشة: يا كـ...ب، أنت طالب فاشل... و... ويمسح بالمشدة حق أحمد. ويواصل: أنت طالب صعلوك، أبوك جالس مغترب بتعز يشقي عليكم بالوقيص وأنت مش حق دراسة، أنا بكلمه لما يروح.
كملت الحصة وخرجنا من الفصل، أنا جريت عشان أسبق أحمد كديشة طرف الدرجة حق المدرسة، أول ما وصل للدرجة نذقت به إلى الأسفل، إلى فوق البقري حق الحاجة زينب التي كانت ترقد تحت الدرج بالضبط، يعجبها ترقد تحت الظلال.
لقد شفيت غليلي، وأبي نسي ما عاد طلعني معه التربة إلا قبل العيد بيوم عشان شراء ملابس العيد.
وآخر مرة حصلت الطالب أحمد وخزنا سوا، قلت له: تذكر يوم حارشت بي عند أبي بالفصل ليضربنا. ضحك وقال: أيام... أنا داري أنها أيام، وكلما ذكرت صديق قديم بحادثة أو قصة لن يسردها معك من جديد، يكتفي يقول لك أيام، ويبتسم. الله يحفظ أبي وصديقي أحمد كديشة وجميع الأصدقاء.

أترك تعليقاً

التعليقات