محمد محمد السادة

السفير محمد محمد السادة / لا ميديا -

عندما سُئل السفير الروسي لدى اليمن، فلاديمير ديدوشكين، في لقاء على قناة (RT) الروسية، العام الماضي، عن موعد عودته إلى صنعاء، أجاب قائلاً: "أُحب العودة هذه السنة؛ هذا اليوم"، رابطاً ذلك بتنفيذ اتفاق ستوكهولم. 
هذا الرد يُمكن قراءتُه كمؤشر لتطلع روسي لعلاقات أكبر مع حكومة صنعاء في إطار المصالح المشتركة. صنعاء هي الأخرى لا تُخفي تطلعها لدور روسي فاعل يُسهم في إحلال السلام في اليمن، حيث سبق أن أكد رئيس الوفد الوطني المفاوض، الأستاذ محمد عبدالسلام، أهمية قيام روسيا بدور إيجابي في الملف اليمني، من خلال ما تحظى به من علاقات ومكانة دولية، وحضور في مجلس الأمن، والقدرة على الدفع نحو صدور قرارات دولية جديدة تُنهي العدوان والحصار وتفرض حواراً سياسياً بين الأطراف، لاسيما وأن الفرص المتاحة لدور روسي تبدو اليوم أكبر من حجم التحديات التي يُمكن أن تواجه هذا الدور، خصوصاً في ظل معطيات الفشل العسكري لتحالف العدوان، وجرائمه وانتهاكاته الجسيمة بحق المدنيين وما تسبب به من معاناة إنسانية فاقت كل التصورات، بالإضافة للفشل الذريع للمساعي الأممية.
هذه المعطيات تمنح روسيا فرصة وأولوية أكثر من غيرها للعب دور سياسي ودبلوماسي قوي يحظى بمساندة دولية، ويملأ الفراغ الدولي الناجم عن توجهات بقية الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، التي ما بين شريكة للتحالف في عدوانه على اليمن أو غير مكترثة، فيما يفتقر الاتحاد الأوروبي لسياسة خارجية متسقة تجاه اليمن. ولكن رغم هذه المؤشرات المشجعة لايزال الدور الروسي في الملف اليمني محدوداً ومقيداً بمحاذير تدفع موسكو لمحاولة الوقوف على مسافة واحدة من جميع أطراف الأزمة الداخلية والخارجية. كما لم تتمكن موسكو حتى الآن من ترجمة ما تحظى به من قبول وعلاقات جيدة مع تلك الأطراف إلى دور يُسهم في وقف إطلاق النار واستئناف المفاوضات وصولاً لاتفاق سلام. 
المدخل الروسي المحايد والمتوازن في التعاطي مع الملف اليمني -وفق توصيف موسكو- لا ينسجم مع حقيقة التطلع البراغماتي الروسي في المنطقة، كدولة كُبرى لها مكانة وثقل على المستوى الدولي. كما أن ما تدعيه موسكو من توازن وحياد لا يعدو كونه نجاحاً أمريكياً بتحييد الدور الروسي وجعله دوراً ذا سقف مغلق يصب في المصلحة الأمريكية. يُضاف إلى ذلك المحاذير والمخاوف التي تُعيق صانع القرار الروسي وطموحاته للانفتاح أكثر على الملف اليمني وتجعله يختزل الدور الروسي في إطار تلك المحاذير والمخاوف، ومنها القفز إلى الملف اليمني قبل استقرار الوضع في سوريا، واعتبار الملف اليمني مجرد ملف للمناورة والتكتيك لخدمة دوره في الملف السوري. لذا فموسكو ليست مطالبة بدور وحضور في الملف اليمني على غرار الملف السوري ذي الخصوصية لدى موسكو، ولكن المهم هنا هو تخلص صانع القرار الروسي من هاجس أن أي دور روسي قوي في اليمن سيكون على حساب الملف السوري، ففي إطار علاقاتها وتحالفاتها الدولية بإمكان روسيا في هذا التوقيت المواتي الانتقال لدور فاعل في اليمن مدعوم من قبل قوى دولية وإقليمية كالصين وإيران اللتين تشتركان مع روسيا في المصالح القائمة على ضرورة الحد من الهيمنة الأمريكية على المنطقة العربية، فمثل هذا الدور يُعزز الحضور الروسي في المنطقة، لاسيما بعد نجاح موسكو في تحقيق الهدف الرئيسي من تدخلها في سوريا، وهو المساهمة في تعزيز صمود سوريا وشرعية نظامها بقيادة الرئيس بشار الأسد. ولذا فأي دور روسي ناجح في اليمن سيزيد شعبية واحترام الشعوب العربية لروسيا وللرئيس بوتين، وسيُعزز الرؤية الروسية للأمن الجماعي في منطقة الخليج، كما سيؤهل موسكو للقيام بأدوار قوية في مختلف ملفات المنطقة، منها على سبيل المثال إحداث تقارب خليجي ـ إيراني.

حدود الدور الروسي المنتظر
إن ما تتطلع إليه صنعاء ليس أكثر من دور روسي إنساني مدعوم سياسياً ودبلوماسياً في إطار الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وفي إطار سياسة خارجية روسية نشطة على المستوى الدولي والإقليمي تستند في تحرُكها إلى القانون الدولي الإنساني وقرارات الأمم المتحدة، وتتبنى الملف الإنساني لرفع الحصار الشامل والسماح بدخول إمدادات الغذاء والوقود، لاسيما عبر ميناء الحديدة الذي يعتمد عليه 70% من السكان، بالإضافة لإعادة فتح مطار صنعاء الدولي، ثم الانتقال لجهود السلام الرامية لوقف إطلاق النار، وتقريب وجهات النظر بين الأطراف الرئيسية التي تملك القرار لاستئناف المفاوضات. ويُمكن لهذا الدور أن ينطلق مستنداً إلى المواقف الروسية الرسمية تجاه الملف اليمني، المتمثلة فيما يلي:
ـ موقفها المعارض للتدخل العسكري الخارجي في اليمن، وانتقاد الدعم الأمريكي للنظام السعودي الذي يقود الحرب على اليمن. 
ـ دعواتها إلى الوقف الفوري لإطلاق النار واستئناف المفاوضات، ورفع المعاناة الإنسانية والحصار المخالف لميثاق الأمم المتحدة وقرار مجلس الأمن.
ـ مواقفها في مجلس الأمن الداعمة لوحدة اليمن، وعدم السماح بتمرير بعض القرارات والبيانات التي تتبناها الولايات المتحدة وبريطانيا.
ـ رؤيتها للأمن الجماعي في منطقة الخليج، المتضمنة ضرورة حل أزمات المنطقة، ومنها التسوية السياسية في اليمن.
ـ استئناف عمل البعثة الدبلوماسية الروسية في صنعاء، والتي ظلت تعمل في ظل العدوان، وغادرت نهاية العام 2017 لدواعٍ أمنية لم تعد موجودة.
انطلاقا من هذه المواقف فموسكو مدعوة لتطوير وتوسيع دورها في الملف اليمني، وإعادة تقييم سياستها، والنظر في الكُلفة والعائد من قيامها بتدخل سياسي ودبلوماسي أكبر في إطار مصالحها وتنافسها مع الولايات المتحدة في المنطقة على المدى الطويل.
بدورها تُدرك صنعاء عدم مجانية مثل هذا الدور الروسي، والكُلفة التي ستتحملها بعد انتهاء العدوان، في إطار ما يحظى به اليمن من أهمية جيوسياسية، وفرصة ثمينة اقتصادياً واستثمارياً، فصنعاء دون غيرها تستطيع ضمان مصالح روسية في اليمن تُنهي الإقصاء الذي دام عقوداً لمصالح روسيا الاقتصادية والاستثمارية في اليمن لصالح الولايات المتحدة والغرب، من خلال إعطاء الشركات الروسية أولوية في المجالات الحيوية، كالنفط والغاز وإعادة الإعمار، بالإضافة لإمكانية بناء تحالفات سياسية وعسكرية في إطار دول محور المقاومة التي لها علاقات متميزة مع روسيا وتلتقي معها في عدد من القضايا.
لا شك بأن أي رهان روسي لتحقيق مصالح في اليمن عبر أطراف خارجية حتماً سيفشل، فقد أثبتت خمس سنوات مضت من عمر العدوان أن صنعاء تملك قرارها في أحلك الظروف، ولا تقبل الإملاءات أو الضغوط. وحتى في إطار المصلحة الوطنية والتفاهمات المشتركة هناك سقف وطني للتنازلات لا يُمكن لصنعاء تجاوزه. كما أن القراءة السياسية لتاريخ الجنوب تُشير إلى أن حالة الفوضى السياسية والأمنية والانقسامات القائمة ستطول، ولا يُمكن معها للنظام الإماراتي أو غيره ضمان مصالح استراتيجية مستقرة لنفسه ناهيك عن ضمانها لغيره. ولا يُعتد بما يحصل في أرخبيل سُقطرى من حماقات النظام الإماراتي وأحلامه بالتواجد العسكري؛ فصنعاء لن تسمح بأي تواجد عسكري أجنبي على الجزر اليمنية، وستطال منظومتها الجوية والصاروخية أي تواجد هناك.

صنعاء بوصلة التحرك الروسي
بعد أكثر من خمس سنوات من العدوان أضحى لدى موسكو خبرات متراكمة في الملف اليمني حصيلة علاقاتها ودعمها لـ"حكومة هادي"، و"المجلس الانتقالي" في الجنوب، بالإضافة إلى دعمها لعلي عبدالله صالح وحزبه في الشمال. كما يُفترض أن تكون صورة المشهد قد تجلت لدى موسكو بأنها دعمت الأطراف الأكثر ضعفاً في المعادلة اليمنية. لذا فالقراءة المعمقة لمستجدات الوضع في اليمن واستشراف مستقبله يُحتم على روسيا طي صفحة صالح وما حملته من وعود تبخرت، ووقف التعاطي غير المجدي مع قيادات جناح الخارج لحزب المؤتمر الشعبي، كونها لا تُمثل سياسة الحزب الذي يُعد طرفاً رئيسياً في حكومة صنعاء. كما أن الفشل والانحسار الكبير لسلطة هادي وحكومته التي تتلاشى شرعيتها المزعومة لا بد أن يكون حاضراً في التعاطي الروسي، من خلال فك الارتباط القائم بين اعتراف موسكو بشرعية هادي الزائفة، واعترافها ودعمها لشرعية حقيقية للنظام السوري وللرئيس بشار الأسد. ولا جدوى أيضاً من التعاطي مع "المجلس الانتقالي" المرهون قراره بالنظام الإماراتي الذي يُهيمن على المجلس وقيادته الضعيفة التي لا تملك أي خبرات سياسية.
في ظل هذا الضعف والتشظي للأطراف الداخلية المرتبطة بالعدوان، بدت صنعاء أكثر قوة وتماسكاً عسكرياً وسياسياً. كما لم يعُد لدى الرياض خيارات مفتوحة للمُضي فيها، بعد فشل وتفكك تحالفها وإنهاك خزينتها. لذا فالنظام السعودي اليوم أكثر قبولاً بدور سياسي روسي ينتشله من المستنقع، ويضمن أمنه، لاسيما وأن مكاسب صنعاء العسكرية تتعاظم، فقواتها تقترب من استعادة آخر المحافظات الشمالية على حدود السعودية، وهي محافظة مأرب، المعقل الرئيسي الذي راهن عليه العدوان لدخول صنعاء. ويُمثل استعادة مأرب ضربة قاضية للتحالف وما تبقى من "حكومة هادي"، كون دلالاتها كبيرة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وتعزز صدارة صنعاء للمشهد.
ختاماً، فإن ما سبق من حقائق ومعطيات تقترح دعماً روسياً لتطلعات صنعاء للسلام، كونها الطرف الأكثر حضوراً وتماسكاً في المشهد اليمني، من خلال دور روسي قوي يُحقق مصالح مشتركة، ويُحدث توزاناً دولياً يحول دون استمرار الغطرسة الأمريكية ـ البريطانية الرامية لإطالة أمد العدوان على اليمن، وإبقاء الملف دون حل؛ كون استمرار الدور الروسي بشكله الحالي لا يُمكنه بأي حال من الأحوال تحقيق تقدم لإحلال السلام، كما لا يضمن أي مصالح لروسيا. ومع ذلك فصمود اليمنيين في وجه العدوان، وإيمانهم بعدالة قضيتهم والتضحية لأجلها، يستوجب النصر والسلام لليمن، وما التطلع نحو دور روسي إلا مسعى في إطار مساعي صنعاء لإنهاء العدوان وتعجيل السلام.

أترك تعليقاً

التعليقات