محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
هناك نظام حكم تآمري انبطاحي عميل يصر بوقاحة عجيبة وغير مسبوقة على تسمية نفسه بنظام الشرعية الوطني، رغم أنه لا يملك في الواقع حتى شرعية تواجد هيئاته ومسؤوليه الأوائل على الأرض، أو في أوساط الشعب، الذي يزعم أنه يمثل شرعيته.
نظام تآمر على شعبه وجوّعه وأدماه وأباح دمه وفرّق أبناءه ومزّق وحدته ولحمته الداخلية وفرط بأمنه وبحاضره ومستقبله وبكرامته واستقلاله الوطني وتطلعاته القومية إلى الحد الذي سيتعين معه على هذا الشعب دفع أثمان باهظة غير التي يدفعها الآن وبذل التضحيات المرة والجسام لعقود طويلة قادمة لتخطي الآثار والنتائج الكارثية العميقة التي خلفها ويخلفها هذا النظام الموسوم زورا بالشرعية على صعيد حياته الوطنية والاجتماعية والإنسانية إجمالا.
ومع هذا نجده متمسكا في كل مره وبإصرار غير منطقي أصلاً على ادعائه مظاهر الشرعية التي كان لرموزه الأوائل سبق تدنيسها وانتهاك حرماتها وبيعها بالمجان.
بالإجمال هو نظام حكم فارغ وبلا تأثير يُذكر سوى جعل المعاناة ترتج في حياة شعبه ليبدو أكثر بؤساً وشقاءً وفاقة وتمزقاً.
فحينما نشأ نظام الشرعية المسرحي هذا على إيقاع العمالة، كانت لدينا جمهورية فتية ومتماسكة أيضا، وكنا نتمتع بنوع من الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي والمعيشي، مصحوباً بمناخات مدنية وحداثية وإن تطورت ببطء شديد إلا أنها أفضل من لا شيء.
وكان بإمكان حتى المهمشين أمثالي أن يحظوا بنوع من العدالة، وإن كانت مشوبة بالضبابية في حال تعرضوا للظلم، بفعل ذاك الواقع الحداثي.
وكان علمنا الوطني واحداً، ولحمتنا القومية راسخة بثبات إحساسنا الطاغي بقدسية وواحدية هويتنا الوطنية المشتركة. وكان نشيدنا الوطني يحظى بالتبجيل المشترك الذي تصدح به حناجر تلاميذ مدارسنا من أقصى اليمن إلى أقصاه.
وحتى أمجاد قادتنا العظام كانت محط استرشادنا، ومآثرهم كانت متسمة دوماً بالقداسة القصوى المنيعة على القدح والمساس.
 وكان راتب الموظف الشهري يفي على الأقل بتأمين ربع المتطلبات المعيشية لأسرته، وإن تطلب منه تأمين الباقي عبر السرقة والفساد، إلا أنها كانت آفة قابلة للزوال مع المدى.
وكانت هناك صحافة شبه حرة، وحتى استقصائية في بعض جوانبها رغم المناخات الدكتاتورية المخيمة، ومكرسة في مجملها للتبشير بالثوابت الوطنية وبعظمة اللحمة والوحدة الوطنية.
وكنا محترمين أيضا كشعب في نظر خصومنا وأصدقائنا على السواء، بغض النظر عن مجوننا وتخلفنا وتعثرنا الحضاري والأخلاقي؛ لأن مبعث احترامنا المكتسب لذواتنا كان نابعاً آنذاك وبالدرجة الأساس من انتفاء مظاهر الجهر بالعمالة والارتزاق المهين.
اليوم لم يعد شعبنا محسوباً حتى في دائرة شعوب العالم الحية،  بحيث لم نعد نمتلك حتى خاصية التصنيف الإحصائي كشعب.
فنسيجنا الداخلي ممزق، ولحمتنا القومية معطوبة، وهويتنا الوطنية مبعثرة بين الولاءات مدفوعة الأجر لصالح أمراء حروب المليشيات الخونجية والانفصالية المتنوعة، وعملتنا الوطنيّة مجزأة، وجغرافيتنا الوطنية مفتتة تتقاذفها حواجز الطرق وخطوط التقسيم المناطقي ومتاريس الأكاذيب والافتراء والذعر والمواجهة... فيما خلت قرانا من شبابها ورجالاتها الذين أجبروا بسبب الجوع والبطالة على التهافت على جبهات المرتزقة لتلتهمهم نيران الاحتراب الأهلي سعياً وراء لقمة العيش، لدرجة -أقسم معها بدموع أطفال الصفيح- أن أحد مهمشي منطقة راسن/ شمايتين (لا داعي لذكر اسمه هنا) ذهب للتسجيل في طوابير طارق زمزمية في الساحل الغربي مستخدماً بطاقة زوجته الانتخابية الورقية القديمة والمتهالكة، لعدم امتلاكه بطاقة شخصية، معتقدا أن شرط قبوله يستدعي إبراز بطاقة، أي بطاقة متوافرة! هكذا بكل ببساطة، رغم أنه نجح في الأخير في الالتحاق بصفوفهم! لا أدري وفق أي إجراء إداري،  أو استيعابي اتخذ،  المهم أنه صار وقوداً لحروبهم الممولة من أعداء الشعب الخارجيين.
الوضع ذاته ينطبق أيضا على غالبية القوى الشعبية المنهكة والمتهالكة، التي نزعت صوب امتهان مهنة التسول كظاهرة فريدة من نوعها ولصيقة بإنجازات نظام الشرعية المزعوم، ولنصبح، نحن "أخدام اليمن"، الضحية الأبرز لهذا التحول الانتكاسي على صعيد وسائلنا التاريخية لكسب لقمة العيش والتي تعرضت للفيد والمصادرة من جموع القبائل الجائعة التي أكلت الأخضر واليابس، فيما يمكن وصفه بعملية استحواذ قسري لمصادر عيشنا وأرزاقنا المستلبة.
فيما خلت شوارع المدن الرئيسية وساحاتها العامة من صور وتسميات قادتنا التاريخيبن العظام التي استبدلت بها، في سياق مشروع الحداثة التفكيكي لنظام الشرعية المبتور، صور وأسماء جموع "المقرمطين" ممن تتنوع تسمياتهم ما بين "أبو يمامة" و"أخو حمامة" و"أبو قمامة"... والذين كانت شهرة أغلبهم محصورة قبل الحرب إن جاز التعبير ضمن قوائم المطلوبين على ذمة قضايا جنائية، قبل أن يتم استنساخهم حاليا ليحلوا محل صناع تاريخنا ومآثرنا الوطنية، أمثال الشهداء عبد الفتاح إسماعيل وعلي عنتر وعلي شائع هادي وصالح مصلح والحمدي والسلال وغيرهم... الخ.
يا له من انحراف تاريخي وأخلاقي بشع نفذته ببصيرة نافذة جموع الخدم والمتزلفين والمتخاذلين وعبيد الانبطاح، الذين (وبقداسهم المصطنع) مزقوا كل روابطنا وإرثنا وتاريخنا في سياق سعيهم للتصدي لحركة احتجاج شعبي أججتها سفاهتهم التي دفعت بالجموع المحتجة في أيلول/ سبتمبر 2014 إلى تفويض الحوثيين للدفاع عن قضاياهم ومصالحهم في وجه ثالوث الفوضى والفساد والتآمر من منطلق حقيقة راسخة آنذاك مفادها أن أنصار الله كانوا هم الطرف السياسي والحركي النظيف من المنظور الجماهيري والشعبي الثائر والخالي بطبيعة الحال من كل شوائب الفساد.
في النهاية، وبعد عقد كامل من زعيقهم وادعائهم المسرحي للشرعية، أتمنى أن يفكروا فقط فيما إذا كان في مقدورهم تفادي التمذهب السياسي والمناطقي والديني، وأن يفكروا بعقلانية ولو لمرة واحدة في ما آل إليه حال البلاد والشّعب بسبب مجونهم الانبطاحي؛ لأن الشرعية الحقيقية لا يمكن اكتسابها من خلال صكوك الخيانة، فتقاليد الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على نفوس الأحياء. كما أشار بذلك الرفيق القائد والمعلم كارل ماركس في تشخيصه لأمثالكم من مصاصي دماء شعوبهم.
...وللحديث بقية

أترك تعليقاً

التعليقات