محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
في الثلاثين من نوفمبر، تحل علينا وعلى بلادنا المكلومة والممزقة ذكرى الإجلاء المزدوج، بشقيه: الأول: إجلاء الاستعمار الذي أكمل عامه الثامن والخمسين عن جنوب بلدنا المثخن حالياً بندوب الفوضى والاحتراب الأهلي والعمالة والارتزاق... الخ.
والثاني: إجلاء الركود الفكري والثقافي الذي شاب مسار الحركة الصحافية والمعرفية الوطنية لعقود زمنية ماضية ومضنية، قبل أن تبدأ رواسبه المخجلة في الاندثار الفعلي من حياتنا قبل عقد مضى، مع انبلاج عهد صحيفة "لا" الباسلة بنمطها الحداثي والاستقصائي الحر الذي يندر وجوده في زمن تسود فيه الدكتاتوريات الدينية والمذهبية والسلالية بأسوأ أنماطها وصورها العقيمة والمشوهة، وباسم الحداثة ذاتها الموءودة والمزيفة.
وللحقيقة فإن الإمعان بموضوعية تحليلية فاحصة لتاريخ الحركة الصحفية والفكرية في بلادنا سيبين لنا بوضوح مدى الفارق الجوهري ما بين صحافة الأمس المنتكسة، وصحافة اليوم التي تتصدر باكورتها الحداثية وبشكل متفرد صحيفة "لا".
فقبل انبلاج عصر صحيفة "لا" التي استهلت مسيرتها المفعمة بآمال الحداثة التقدمية والوطنية بعد حوالى عام واحد على انبثاق العهد الثوري الوليد (أيلول 2014). كانت كل صنوف الصحافة الوطنية والأهلية والحزبية، وبمختلف اتجاهاتها ومكوناتها، تمر بأزمة ركود وتعثر وتقوقع حاد ومزمن جراء ارتهانها وحملة أقلامها، المخزي والانهزامي المهين، لجلاوزة التوجهات الصنمية الجامدة والمتبلدة التي شابت مفاصل الحركة السياسية والمدنية والحزبية في بلادنا، جراء ارتهان رموزها الأوائل من قادة وسياسيين ورجال فكر لأهوائهم ومنافعهم الشللية والشخصية على حساب القيم والمصالح الوطنية والشعبية إجمالاً، على غرار صحيفة "الصحوة" على سبيل المثال، التي ظلت ولا تزال تمجد كل صنوف الإرهاب الديني والعشائري، بصورة لا تقل رجعية وماضوية عن ربيبتها آنذاك صحيفة "الثوري" الناطقة بلسان حزبنا الاشتراكي، والتي انتُزعت عنوة من جذورها التقدمية والثورية في أعقاب المؤتمر العام الخامس للحزب (يوليو 2005) من قبل انهزاميي الحزب (شلة ياسين سعيد نعمان - أبو بكر باذيب)، محولين إياها من منبر تنظيري حر إلى بيئة طاردة لحملة الأقلام التقدمية الحرة، وإلى بوق مكرس لخدمة الأجندة والتطلعات الماضوية بنمطها الارتزاقي الموغل في العمالة والانصياع لدكتاتورية صالح، بفضل الشلة المذكورة، وعلى حساب القضايا الوطنية والجماهيرية والمدنية المثخنة بندوب الاجتثاث العسكرتاري... الخ.
ومثلها باقي المطبوعات، على اختلاف تسمياتها، باستثناء صحيفة "صوت الشورى" الناطقة بلسان حزب اتحاد القوى الشعبية اليمنية،  والتي جسدت دون مواربة منذ منتصف العقد الأخير من القرن العشرين نوعاً من الاتجاه الحداثي الوطني المقاوم لدكتاتورية الرئيس الراحل صالح، وذلك قبل أن يخبو بريقها وألقها الثوري منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، على ضوء نجاح المشروع التفكيكي الذي هندسته أجهزة استخبارات الرئيس صالح آنذاك لتفتيت حزب اتحاد القوى الشعبية وشرذمته، رغم أن تأثيره الجماهيري والسياسي كان نابعاً في الدرجة الأساس من قوة شرارة صحيفته، وليس نتاج ثقله الجماهيري والحركي، الذي لم يكن قوامه يتعدى في حقيقة الأمر الحد العددي لركاب حافلتين كبيرتين إن جاز التعبير.
اليوم، تنوء صحيفة "لا" بأعباء الواقع الجماهيري والمدني والوطني إجمالاً، وبصورة فريدة ومتفردة من نوعها. فهي، إلى جانب مناهضتها المفتوحة والشرسة للعدوان وأعوانه وأزلامه، وفضحها الدائم والمستمر لمجونهم وجرائم الحرب المرتكبة من قبلهم في حق شعبنا المجني عليه... فإنها تنوء في الوقت ذاته بأعباء التصدي اليومي لمعاول الهدم والردة والفساد المستشري في أعلى مستويات الحكم الثوري المفترض في الداخل الوطني، وتفضح مكامنه العلنية والمبطنة، أياً كان منشؤه، رغم ما تفرضه مثل تلك المجابهة غير المتكافئة من مخاطر جمة ومحتملة على حياة رواد الصحيفة ومحرريها في حال تنامت ردود الفعل الثأرية من قبل عصابات الفساد المليشياوية والمبندقة إلى أقصى الحدود، في زمن تسود فيه لغة العنف والقوة والإقصاء الإخضاعي لأبسط أبجديات الحداثة الوطنية المقاومة، وباسم الحداثة الموءودة ذاتها.
في المحصلة، أستطيع القول إنني، ككاتب وصاحب قضية عادلة، عانيت فيما مضى ولأعوام طوال من نتائج الحظر والإقصاء الفكري الممنهج، والمكرس بأشكاله العلنية والمبطنة، الذي مورس ضد حملة الفكر والكلمة الحرة، من قبل أباطرة الصحافة الأهلية والوطنية المقيدة بالحواجز الصنمية كما أسلفت؛ تارة تحت مسمى ترشيد الخطاب السياسي،  كمصطلح ابتدع من قبل الثنائي "أبو بكر باذيب وياسين سعيد نعمان" بغية إسكات وإقصاء الأقلام المتقدة في صحيفة الحزب ("الثوري") والحد من الاندفاع الثوري المقاوم في السياق الحركي الداخلي للحزب؛ وتارة أخرى تحت زعم تجنب النزعات الشوفينية، المعمم آنذاك من قبل صحف أخرى محسوبة على صوت الشعب المعارض للدكتاتورية... الخ.
لكنني اليوم، ومن على صفحات "لا"، وجدت القدرة والمتنفس الفكري الحقيقي والمتاح للتعبير عن مكنوناتي المتمردة، والتصدي لمكامن الفوضى والفساد والانحطاط والرذيلة، وفضح المظالم، والترويج لتطلعاتنا التحررية معشر المهمشين، دون أية عوائق أو منغصات تذكر.
وكلي يقين في أن أجيالنا المقبلة معشر أخدام ومهمشي اليمن، ستكون على إلمام كافٍ بمدى الإجلال والأهمية التي منحته صحيفة "لا" لقضايانا التحررية العادلة، من خلال مبادرتها غير المشروطة والمقيدة لتبني همومنا وتحمّل أعبائنا الطبقية، لدرجة أنها باتت تشكل وعلى مدى العقد المنصرم ومنذ لحظات انطلاقتها الأولى، المنبر الإعلامي الوحيد الفارد صفحاته بسخاء وبحبور ثوري منقطع النظير لأقلامنا الوجلة والملتاعة، في زمن فوضوي وعصيب سادت فيه لغة الرصاص والبنادق على الكلمة، إلى الحد الذي أعجزنا أحياناً حتى عن صياغة مفرداتنا الحركية والكفاحية والمطلبية بصورة سليمة ومتماسكة.
التحية والإجلال منا لصحيفة "لا" ولروادها ومحرريها، الذين تفردوا بجعل الاستقلالية السياسية والفكرية منهاجاً ثابتاً ومقدساً لهم، الاستقلالية التي ستؤهل صحيفتهم الموقرة دون شك للتحول مع المدى من منبر دعوي - حداثي - وطني إلى حالة ثورية متفردة ستحتل مكانها بجدارة ولا شك في ذاكرة التاريخ الشعبي والوطني المبجل...
وللحديث بقية.

أترك تعليقاً

التعليقات