محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
قبل أربعة عقود ونصف، وفيما كانت بلادنا تعيش أعنف رداتها الرجعية الماضيوية المهندسة سعودياً عقب قيام الأخيرة بترتيب جريمة اغتيال الرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي في الحادي عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 1977 وتصفية مشروعه الوطني الحداثي والوحدوي، في بادرة إجرامية عكست آنذاك المدى الحقيقي الذي يمكن أن تبلغه الرجعية السعودية والخليجية وأسيادهم في الإمبريالية الأمريكية في وأد آمال وتطلعات الشعوب والمجتمعات الحرة بغية إبقائها قيد الارتهان والتبعية، وفيما البلاد غارقة آنذاك في الفوضى والانقسام والتشرذم والاستقطابات المتضادة التي استفحلت في ظل الفراغ السلطوي الذي خلفته عملية إلحاق الحمدي بقاتله الأول المقدم أحمد الغشمي صبيحة يوم الرابع والعشرين من حزيران/ يونيو 1978؛ إذا بالبلاد تفاجأ بوجه جديد أطل عليها من على مقعد الرئاسة: علي عبدالله صالح، الذي كان ولا يزال حتى اللحظة مصنفاً بوصفه أحد أبرز حلقات التآمر الإجرامي الرئيسية التي أودت بحياة الرئيس إبراهيم الحمدي، وفق ما أكدته مؤخراً أحدث الوثائق الاستخباراتية الأمريكية المسربة في هذا الشأن عبر موقع "ويكيليكس" في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021.
في البداية، أعتقد العديدون أن هذا الوافد الجديد على السلطة (أي: صالح) لن يكمل شهره الأول في الحكم، خصوصاً مع هيئته القروية الرثة تلك التي بدا عليها بشاربه الكثيف وشعر رأسه المتكوم والشبيه بتسريحة الفنان فيصل علوي... بالإضافة إلى لكنته البدائية الموغلة في التخلف إلى حد عجزه الواضح حتى عن التفريق لغوياً ما بين عبارة "لم" و"لن"...
لكن الرجل صمد وبشكل يثير الإعجاب، ولما يربو على أربعمائة شهر لاحقة، بحيث لم يكن الأمر يتطلب منه إبداء الكثير من الشجاعة والمرونة والبطولة لضمان بقائه في الحكم، بقدر ما تطلب منه شيئين أساسيين، تمثل أولهما في تكريس العقلية التآمرية ذاتها التي أسهمت في إيصاله للحكم عبر إيغاله الانتهازي في اللعب طوال ثلاثة عقود ونيف على حبل التناقضات السياسية والاجتماعية والمذهبية المتغلغلة في أوساط الشعب، بالصورة التي مكنته فعلياً من إخضاع أغلب فئات المجتمع وتطويعها لخدمة أجندته الدكتاتورية.
وتمثل الآخر في استعانته الاستقوائية الفجة بقبيلته السنحانية – الحاشدية، التي مكنته من إحكام قبضته الحديدية على مفاصل السلطة، وخصوصاً العسكرية منها والأمنية، بحيث نجح في هذا المنحى في تحويل قبيلته من مجموعة رعاع مبندقين بأقدامهم الحافية وأسمالهم البالية إلى جهاز إخضاعي محكم التنظيم، وإلى أداة فعلية لفرض سيطرته الطبقية على البلاد، فالجيش والشرطة وجميع المناصب العليا في الدولة وكبار الموظفين ورؤساء الهيئات والإدارات الحكومية وقادة الشرطة والضباط، وخاصة العقداء والجنرالات باتت حكراً على من يتم اختيارهم بعناية من وسط حاشيته الأسرية والقبلية، لتلبية احتياجاته السلطوية ولخدمة أجندته الإخضاعية، التي تنوعت ما بين إفراطه من ناحية أولى في استخدام مختلف وسائل القمع والإرهاب السياسي المنظم والموجه ضد خصومه السياسيبن، كالقتل والتنكيل والاختطافات والإخفاءات القسرية والتجويع، وما بين انتهاج سبل التطويع والتدجين الاختياري لمواليه والسائرين في ركبه، عبر تسخيره أموال الشعب لشراء الذمم والولاءات القبلية والشخصية... إلخ.
اليوم يتغنى المؤتمريون شمالاً وجنوباً، في الداخل والخارج، بهذا التاريخ (17 تموز/ يوليو) باعتباره التاريخ الفصل ما بين عصور الردة والفوضى والتخلف الماضيوي، وبين الواقع الحضاري المزعوم الذي تحقق خلال الأربعمائة شهر من عهد الرئيس الراحل صالح في الحكم، مع أن الواقع الوطني المعاش اليوم يقدم صورة أخرى مغايرة ومتناقضة كلياً مع مظاهر هذه الحالة الذهنية المريضة لدى أتباع صالح، في تأكيد جلي للحقيقة القائلة في أن "الجذور المتعفنة لا يمكن لها أن تثمر أبداً"، فالحديث عن 17 تموز/ يوليو سيأخذنا ولا شك إلى استعراض أسباب تفاقم الصراعات السياسية والاجتماعية والأيديولوجية والمذهبية في البلاد، التي بلغت جراء سياسته التفكيكية منحى تصاعدياً يستحيل معه تلافي أخطارها ونتائجها الكارثية على المدى المستقبلي المنظور، وبالصورة السائدة والمعاشة اليوم.
كما سيأخذنا الحديث عن التاريخ ذاته أيضاً لإدراك حقيقة كيف أن الفساد والفوضى الجارية والنهب الاستحواذي المنظم لثروات البلاد من قبل منظومة الحكم القبلي العشائري التي كرسها صالح طيلة أغلب سني حكمه المنصرمة قد أسهمت في إفقار الشعب اليمني وفي افتقاره لأبسط مقومات النمو والتطور الحضاري المفترض وعيش حياته بصورة كريمة وآمنة، وكيف أن عناصر الانتهازية التي تراكمت خلال عشرات السنين من الحكم العفاشي تتجلى بوضوح اليوم من خلال تفشي واستفحال انعدام الروح الوطنية لدى غالبية القوى والتيارات السياسية والأيديولوجية والعشائرية والحزبية التي جعلت عمالتها ومتاجرتها بالقيم والكرامة الوطنية معياراً أساسياً للصراع الناشب والمحتدم على امتداد المشهد الوطني، والذي تخوض غماره لا دفاعاً عن مبدأ أو قضية معينة، وإنما سعياً لاقتسام وإعادة اقتسام هذا النوع من الغنائم، الذي اعتادت "تفيّده" إبان حكم الرئيس صالح، وعلى إيقاع أنشودة "يا فرح يا سلا"، بالصورة التي يجسدها اليوم أبرز خريجي المدرسة العفاشية (كومة القذارة المسمى طارق عفاش)، الذي لم يتوانَ عن لعب دور المحظية في بلاط سادة "أورشليم" في سياق مشروعه الدفاعي المزعوم عن جمهورية عفاش.
صحيح أن البلاد شهدت خلال الحقبة العفاشية الكثير من المتغيرات الجوهرية، منها وحدة شطريها التي تزامنت قبل ثلاثة عقود ونيف مع نشوء نوع من الهامش المؤسسي ذي الطبيعة الهلامية في الحكم، مصحوباً بهامش مدني أقل فاعلية فيما يخص شكل التعددية السياسية والمدنية والحزبية التي شهدتها البلاد، إلا أن أيّاً من هذا لم يكن ليساهم في تخفيف عثرات البلاد المتراكمة والموروثة، بالنظر إلى طابع الشخصنة الحاد الذي شاب أغلب تلك الإنجازات، إن جاز لنا تسميتها كذلك، والتي اندثرت بزوال نظام حكمه، الذي لا نزال نعاني من رواسبه الأكثر فتكاً، والتي تشكل اليوم دون مواربة الجزء الأكبر من معضلات البلاد الشائكة، بدءا بموجات الاحتقانات المذهبية السائدة والمتفجرة على شكل جولات احترابية طويلة ومريرة بين أبناء الشعب اليمني الواحد، وانتهاء بالميراث الوحدوي، وإن كانت الوحدة تعد من الناحية الموضوعية أحد أبرز منجزاته في الحكم، فقد باتت اليوم عرضة للانقراض والاضمحلال الفعلي، جراء هوسه الاستحواذي التسلطي الذي كرسه بصورة أكثر ردة وماضيوية في السابع من تموز/ يوليو 1994، حينما تحول من موحد إلى غازٍ ومتعطش للهيمنة على رأس جيوشه الجرارة التي اجتاحت محافظات "الحزام الجنوبي"، بما ولدته خطوته تلك من احتقانات مناطقية وقومية يتم توظيفها اليوم بصورة أكثر وضاعة وانتهازية من قبل أذناب أبوظبي بغية تجريد البلاد من وحدتها العضوية والعودة بها إلى عصور التجزئة المظلمة.

أترك تعليقاً

التعليقات