محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
الآن، ومع تصاعد النشاط الانفصالي المحموم في محافظات الحزام الجنوبي، فإن ما يدهشني أكثر هو اعتقاد كثير من الساسة والمتابعين والمحللين في الداخل والخارج بأن للحزب الاشتراكي، أو لفصيله الجنوبي على الأقل، صلة عضوية ومعينة بإيقاظ وقيادة تلك النزعات الانفصالية  والقومية المتطرفة إلى حد التعجرف.
وهذا غير صحيح البتة؛ لأنه لو كان للحزب أي صلة حركية أو تبشيرية أو تنظيمية مباشرة بما يجري حوله في الجنوب لكان مستوى حضوره وتأثيره السياسي والحركي والجماهيري متقدماً وموازياً بالتأكيد لحجم الأحداث الساخنة والمحتدمة ذاتها.
صحيح أن أغلب قيادات الحراك، و»الانتقالي الجنوبي» أيضاً، خرجوا من بطون الحزب الاشتراكي اليمني كأعضاء وكقيادات حركية سابقة ومؤثرة فيه، وذلك قبل أن ينسلخوا منه أصلا ويبدؤوا في تكوين حلقاتهم ومنظماتهم السياسية والجماهيرية ذات الصبغة المناطقية والقومية الناشطة بمعزل عن الإطار السياسي والأيديولوجي والحركي التاريخي للحزب.
فالحزب الذي قاد الجنوب وباقتدار قبل ثلاثة عقود ونيف صوب الوحدة ليس بمقدوره فعل العكس في الوقت الحالي، حتى وإن رغبت قياداته بالسير في هذا المنوال، بالنظر إلى غيابه المخزي أولاً عن مشهد الأحداث الوطنية اليومية والساخنة، وافتقاره شبه الكلي من ناحية أخرى للقدرة على استعادة حضوره وخلق التأثير السياسي والجماهيري المطلوب، خصوصاً وأنه (أي الحزب) يمر -ومنذ قرابة العقدين من الزمان تحديداً إذا استثنينا نكسات حرب صيف 1994 وما تلاها- فيما يمكن وصفه بالموت السريري الحاد، لدرجة ان أمراء حرب وقادة مليشيات من حوله هنا وهناك نجحوا في اكتساب وزن وثقل وحضور مميز ومؤثر أكثر بكثير مما يمتلكه أو يحظى به حزبنا الاشتراكي العريق على امتداد المشهد الوطني إن جاز التعبير. وهذا ناجم بطبيعة الحال عن جملة من الأخطاء والإخفاقات السياسية والنظرية والتكتيكية التي توالت تباعاً منذ أواخر العام 1989.
صحيح أن أكبر وأفدح تلك الإخفاقات حدث خلال الأشهر التي سبقت إعلان قيام الوحدة اليمنية، حينما تخلى مهندسو المسار الحزبي آنذاك رسمياً عن مسار العجلة الثورية (الاشتراكية العلمية) ممتطين عربة «الغلاسنوست الغورباتشوفية»، دون إيجاد بديل نظري يجنب الحزب مغبة الانزلاق في دهاليز الفوضى والضياع والتشرذم جراء انحلال هويته السياسية والثورية، ويجنبه عواصف التفكك الأيديولوجي والحركي الداخلي، الذي بدت نتائجه وانعكاساته واضحة على أداء الحزب السياسي والتعبوي إبان المرحلة الانتقالية وصولاً إلى حرب صيف 1994 العدوانية، والتي لم تقوض فحسب حضوره ومكتسباته في الساحة الوطنية بقدر ما طالت حتى تماسكه ولُحمته الداخلية أيضاً التي تشرذمت بعنف على ضوء نتائج تلك الحرب.
ومع هذا أستطيع القول، وكعضو سابق في لجنته المركزية، إنه ورغم ضراوة وعدوانية تلك الحرب ومردودها الكارثي، إلا أن الحزب نجح نوعاً ما في استعادة تماسكه، ليتمكن خلال سنوات ما بعد الحرب، رغم مجونها البربري، وبشكل مبهر، من إعادة بناء منظماته الجماهيرية وتمتين لُحمته الداخلية، وإعادة رسم خطه النضالي الوطني، متخطياً بذلك العديد من العثرات الشاقة التي فرضتها مناخات ما بعد الحرب الإلغائية، لدرجة أنه كان بمقدور الحزب حقاً الحفاظ على مستوى تمثيله النوعي للقضايا والمظالم الجنوبية، وتصدرها حتى اللحظة، لولا الخطأ الكارثي الذي ارتكبته قياداته المنبثقة عن مؤتمره العام الخامس (المقصود هنا شلة ياسين سعيد نعمان وأبوبكر باذيب)، والتي شاء سوء الحظ أن تهيمن على مفاصل القرار الحزبي في الأول من آب/ أغسطس 2005، بالتوازي آنذاك مع نشوء اللبنات الأولى للحراك المطلبي الجنوبي، الذي اتخذ له مسمى جمعية المتقاعدين العسكريين والمدنيين في محافظة الضالع، والتي برزت رسمياً إلى العلن للمرة الأولى في آذار/ مارس 2006، متولدة من رحم الفوضى والدكتاتورية العفاشية، حيث كنت أنا شخصياً وكعضو لجنة مركزية على رأس قائمة مؤسسيه الفخريين -إن جاز التعبير- في محافظة الضالع، إلى جانب المؤسسين الفعليين، وجلهم من الرفاق المؤثرين في الحزب، منهم أعضاء محلي الضالع وأعضاء لجنته القيادية في المحافظة: الرفاق عبده الشوبجي وأحمد الزوقري وعضوي المركزية النائب صلاح الشنفرة وفضل الجعدي، الذي يشغل حالياً منصب نائب رئيس المجلس الوطني في الانتقالي الجنوبي، بالإضافة إلى الأستاذ علي شائف رئيس فرع اتحاد القوى الشعبية في المحافظة، والذي يعد أيضاً من خريجي المدرسة الحزبية القديمة، وآخرين لا يتسع المجال هنا لذكرهم، والذين كلفوني آنذاك وعقب إعلانهم تأسيس حراكهم السلمي بعرض قضاياهم المطلبية على الأمانة العامة للحزب، مع طلب مشفوع من قبلهم بإدراج قضاياهم ومطالبهم الحركية ضمن أجندة الحزب النضالية الرسمية وتبنيها رسمياً أمام سلطات صالح الحاكمة آنذاك، وهي المطالب التي لم تنل رضا قادة الحزب آنذاك، مثلما لم تجد لها آذاناً صاغية البتة لدى الثنائي (ياسين - باذيب) اللذين بدا واضحا آنذاك أن ولاءهما لنظام صالح كان يطغى بدرجة أكيدة على ولائهما المفترض للحزب ومعتقداته الكفاحية، واللذين أسهما بالفعل من خلال رجعيتهم وعمالتهم العلنية لنظام صالح في تقويض ما تبقى من لُحمة الحزب الداخلية ووحدته الحركية، وفي إبطاء اندفاعه النضالي أيضاً، وعلى مختلف الصعد والمستويات، وعلى رأسها الأولويات الجنوبية، لدرجة أنه ومع بدء احتدام نضال «جمعية المتقاعدين العسكريين والمدنيين في الضالع» على المستوى الجماهيري بوصفها أولى لبنات الحراك الجنوبي كما أسلفنا، فإن أمين عام الحزب آنذاك، ياسين سعيد نعمان، لم يتردد في نعت ما يجري في الجنوب، في تقريره المقدم للجنة المركزية في دورتها الثالثة التي انعقدت في حزيران/ يونيو 2006، بالمطالب العقيمة لطغمة من قطاع الطرق، في بادرة انهزامية لم تؤدِّ فحسب إلى إحداث شرخ انقسامي عميق في صفوف الحزب بين تيار شمال وتيار جنوب، شرخ لا يزال قائماً حتى اللحظة، بل ومنحت حركيي الجنوب الذريعة المناسبة للانسلاخ من هرمية الحزب والشروع في تكوين حلقاتهم السياسية ذات الطابع المناطقي الآخذ في التعصب القومي التدريجي حتى بلوغه مرحلة التطرف الانفصالي الأعمى.
إذن، وفي ضوء هذه الحقائق، فإن الحزب والقائمين عليه باتوا فاقدين للقدرة الفعلية، ليس فحسب عن تنظيم وقيادة حركة الكفاح السياسي والجماهيري الشعبي بالصورة التي يأملها الكثيرون، وإنما حتى عن تقديم المبادرات الاجتماعية والسياسية لإدراك الواقع السياسي الجماهيري والوطني من حولهم.

 الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن ـ رئيس قطاع الحقوق والحريات في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة في اليمن.

أترك تعليقاً

التعليقات