محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
خُلقنا في هذه الحياة ضد إرادتنا بالطبع؛ لقد فرضت علينا قسرا؛ لأن الرب لم يسألنا قط ما إذا كنا قد قبلناها أصلا، فليس لدينا خيار في ذلك، مثلما لم يكن لدينا خيار حتى في اختيار نمط عيشنا وسبل حياتنا الذاتية، فنحن مجرد أدوات لاستبداد المشيئة ذاتها، التي جردتنا حتى من الحق والحرية في اختيار سبل وتوقيت موتنا.
إننا مخلوقات ضعيفة وعاجزة حتى عن فهم المعنى الحقيقي للوجود، وخصوصاً نحن معشر "الأخدام"، الذين تتنازعنا أقدارنا ما بين العبودية للخالق وبين عبوديتنا لمخلوقاته من "قبائل العرب المهرطقة" الزاعمين زورا أنهم مخلوقون على هيئته، دون أن يكون في مقدورنا إدراك الحقيقة أو حتى اكتساب ثواب العبودية لكلا السيدين (الرب والقبيلي)، فليس هناك أخلاق في هذا ولا عار، فقط قانونهم الاستقوائي الرث، فحينما يسقط عامل نظافة ميتاً في الشارع أثناء تأدية عمله في كنس أوساخ القبائل وقذاراتهم، كما حدث أمس الأول لعامل النظافة "فتيني" بمدينة الحديدة، فإن أمرا كهذا يعد بديهياً؛ لأن "خادماً" آخر سيحل محله بالتأكيد لتنظيف ما تبقى من إفكهم ووساخاتهم، باستثناء ضمائرهم المتسخة باتساخ التاريخ ذاته.
وحينما يحتضر "خادم" شبه مثقف مثلي، فإن هذا يعد بمثابة عطية سخية من الرب للقبائل؛ لأنه وبرحيلي غير المأسوف عليه عن عالمهم الدنيوي يكون الرب بهذا قد منحهم تأكيداً إضافياً على حتمية الحفاظ على نقاء عرقهم البشري الأبيض من رجس ودنس الأعراق الدخيلة الأخرى، وخصوصاً عرقنا الأدنى، نحن "أخدام" ومهمشي اليمن، فلا مكان بينهم لمثقف "خادم" مثلي يمكن من خلال قلمه "ولقافته المخدمانية" أن ينغص عليهم عيشهم، ويشوه إرثهم، ويخل بموازين وتراتبية خلق الله، بما يحد من أفضلية عباده الصالحين ومقاماتهم الرفيعة، حتى وإن كانت ممزوجة بعفن "الشمة" (البردقان) والقات والقمل والقيم الماضوية! فهذا جزء أصلا من تمسك هذا المجتمع القبلي الصالح والراسخ بميراث أجدادهم وسلفهم الصالحين!
وحينما يسقط شهيد منا، حتى ولو كان في خطوط التماس المتقدمة، دفاعا عن تراب هذا الوطن وأمنه واستقلاله وكرامة شعبه، حتى من أولئك الذين سقطوا ويسقطون ربما في عهد وفي سبيل عملية ثورية كأيلول 2014 الظافرة، التي نشبت في الأصل على قاعدة إنصاف المظلومين والمقصيين والمهمشين، ثورة اعتقدنا أنه من خلالها سيكون لنا كـ"مهمشين" حظ محتمل لاستعادة ولو جزء ضئيل من كرامتنا وآدميتنا وإنسانيتنا المستلبة، على غرار ولدي الأكبر، الشهيد/ عدنان محمد القيرعي (أبو نصر الله)، الذي سقط صبيحة الثالث عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2017 في خطوط جبهة نهم المتقدمة؛ فإن شهادته تعد في هذه الحالة منقوصة تماماً، وعليه وعلى أقاربه أن ينتظروا في آخر الصف فيما يخص الاعتراف بوضعه واستحقاقاته كشهيد؛ لأنه -ومن المنظور الأخلاقي طبعاً، وهذا هو الأهم- كان مملوكاً في حياته الدنيا لأسياده القبائل، وليس مواطناً كامل الحقوق والأهلية المجتمعية والوطنية، لتنطبق عليه صفة الشهيد على غرارهم، هم وأبنائهم، الأمر الذي يعني أن استشهاده كان منصباً في الأساس لخدمة أسياده القبائل وتأمين كراسي حكمهم الدوارة وضمان بقائهم واستمراريتهم في دنيانا لمقاومة هذا العدوان الضاري على بلادنا، والذي يمس حريتهم هم في الأساس، وليس حريتنا نحن، المنزوعة منا، رغم صكوك وشعائر الخالق ذاته، الذي قال في محكم كتابه: "يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى العبد بالعبد والحر بالحر والأنثى بالأنثى، فمن عفا وأصلح كان له خيرا" (صدق الله العظيم).
اليوم أنا أحتضر جراء تليف الكبد المزمن وتفشي ورم السرطان الناشئ ربما وبشكل مؤكد عن احتمالية استنشاقي غير المقصود لرائحة قبيلي من أولئك الزاعمين أنهم مخلوقون على "هيئة الرب ذاته"؛ إلا أن سفري للعلاج لا يزال متعثراً؛ لأنني كنت أصبو إلى أن يتكرم مانحو الأوسمة في صدارة أيلول 2014 بمنحي ما هو حق مشروع لي من مستحقات فلذة كبد سقط وهو يأمل في قرارة نفسه المنزوعة في إكمال مشواري التحرري، علها تؤمن لي ثمن تذكرة السفر المأمولة.
عليهم أن يدركوا في هذا الصدد أن انتماءنا أنا وشهيدي "أبو نصر الله" وآلاف "الأخدام" لثورة أيلول 2014 الظافرة ما هو إلا انعكاس حي وحقيقي للوحة مشهدية تبين عمق الروابط الكفاحية والطبقية التي تربطنا كمهمشين بثورة الكرامة الوطنية، حتى وإن طالنا الجحود والنكران حيالي أولا، كأب مفجوع ومكلوم وكمثقف ثوري يائس ومحتضر، وحيال ابني بوصفه من طلائع الشهداء السود؛ إلا أن هذا الجحود والنسيان لن ينتقص بالتأكيد من ولائنا الراسخ لثورة أيلول 2014؛ لأن الثورة هي في الأول والأخير مبدأ تحرري وقيمة وطنية مثلى، وليست مرهونة بمن أوغلوا في وأدنا ونسياننا.

أترك تعليقاً

التعليقات