محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
أذكر أنه وقبل اغتياله (رحمة الرب تغشاه) بحوالى ستة أيام فقط، كنا مجتمعين في جلسة مقيل كعادتنا (نخبة كتاب وسياسيي المشترك) في منزل الأستاذ علي سيف حسن الضالعي، رئيس المنتدى السياسي فيما بعد، حيث جرت العادة على أن نلتقي بصورة أسبوعية ثابتة ومنتظمة كل يوم أحد في منزل الضالعي وكل يوم جمعة في منزل الشهيد جار الله عمر. وكانت لقاءاتنا تلك تأخذ شكل ندوات حوارية ونقاشية معمقة تشمل مجمل القضايا الوطنية والعربية وحتى العالمية أحياناً.
وبالطبع فقد كان الغائب الأبرز عن ندوتنا الحوارية ذاك الأحد 22 كانون الأول/ ديسمبر 2001 هو الشهيد جار الله عمر، الذي أطل علينا بعد السادسة مساءً بقليل وكان في طريقه لإلقاء محاضرة حقوقية/ سياسية في فندق شيراتون، فيما كان محور نقاش ندوتنا يتمحور حول علاقة منظومة "أحزاب المشترك" الوليدة آنذاك بهموم وتطلعات الشارع الشعبي اليمني.
ومن المصادفات الحسنة أن مداخلتي في النقاش تزامنت مع وصول الشهيد جار الله عمر، الذي غادرنا بعد حوالى نصف ساعة في طريقه صوب فندق شيراتون. وأذكر أنني "سقطت على حظ المشترك" في مداخلتي تلك متهما إياهم بالتقاعس والبعد الكلي عن قضايا الناس، وبالارتزاق السياسي والحركي من وراء قضايا الشعب وهمومه المتصاعدة.
وحينما همَّ الشهيد بالمغادرة رافقناه إلى جوار السيارة أنا والرفيق الكاتب عبدالرحيم محسن. وقبل أن يصعد إلى سيارته انفرد بي جانبا وحدثني بلهجة ملؤها الألم والحيرة والمرارة والإحباط قائلا ما معناه: "أنا معك يا أستاذ محمد في كل ما طرحته في مداخلتك عن تخاذل المشترك وعدم فاعليته، وأودك أن تفهم أننا نحمل أكفاننا على أكتافنا في محاولتنا لترجمة مشروع اللقاء المشترك من الورق للواقع. لكن إخواننا في الله (ويقصد هنا الخونج) غير راضين".
ثم أردف مستطردا بعد لحظة صمت وقبل أن يهم بركوب سيارته: "المهم استعدوا يا أستاذ محمد في الوقت الحالي للاعتصام الأسبوع القادم أمام مجلس النواب".
وكان الاعتصام الذي دعا إليه الشهيد آنذاك يهدف إلى الاحتجاج على قانون منع المظاهرات الذي كان المجلس يسنه على ضوء تداعيات هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر في نيويورك.
تلك الكلمات القليلة التي أسرَّ لي بها الشهيد ذاك المساء وقبل ستة أيام فقط من اغتياله الجبان، جعلتني أدرك بجلاء مدى الصعوبات التي تكتنف أحلام هذا القائد الملهم ومساعيه الوطنية الرامية آنذاك ومن خلال مشروع اللقاء المشترك الذي كان هو مهندسه الرئيس لانتشال العملية السياسية والمدنية من ركودها، وإعادة الفاعلية للتعددية السياسية والحزبية عبر سعيه لتحقيق شكل من أشكال التوازن السياسي المفقود، وبما يفي على الأقل بتقزيم ديكتاتورية الرئيس صالح المتوسعة آنذاك على ضوء نتائج حرب صيف 94م التي قوضت كل دعائم المشروع المدني والديمقراطي الوليد مع مشروع الوحدة اليمنية في أيار/ مايو 90.
الألم والمرارة اللذان كانا يعتصران الشهيد كان مبعثهما بطبيعة الحال تنكر شركائه الجدد (حزب الخونج) لمبدأ التسامح المطلق الذي أبداه تجاههم "الحزب الاشتراكي" رغم كل ما طاله من جور المطاوعة ومؤامراتهم الدنيئة التي حصدت إبان المرحلة الانتقالية المئات من قياداته وكوادره، عدا عن حملات التحريض الديني والسياسي والاجتماعي واسعة النطاق التي شنوها ضد الحزب، قبل وبعد الوحدة، وصولا إلى تنظيرهم اللاهوتي الممنهج لحرب صيف 94م واشتراكهم الجنائي الفعلي في تنفيذ فعلها الجرمي، أي الحرب، ضد الحزب والشعب اليمني على وجه العموم.
أما إحساسه بالخذلان فكان ناجما عن يقينه المبكر باستحالة العمل والتوافق الوطني المتكافئ مع هذه الحزب الإخونجي الماضيوي الذي وبدلا من اقتناصه المفترض لفرصة الانخراط الفعلي في شراكة وطنية حقيقية، عبر مشروع "اللقاء المشترك"، وبما يتيح له التكفير في المقام الأول عن أخطائه وجرائمه السابقة المرتكبة في حق الشعب وقواه الوطنية وطلب الغفران من الشعب عبر العمل هذه المرة لصالح تطلعاته المدنية والحضارية، إلا أنه، أي حزب الخونج، وبدلا من ذلك شرع وفي سياق انتهازيته المعهودة لاستثمار مشروع اللقاء المشترك (كخارطة طريق وطني) لتعزيز حضوره السياسي والحركي وتحصين وجوده أمام مشروع التقزيم الذي بدأ يستهدفه آنذاك من قبل حليفه التقليدي (نظام الرئيس صالح)، وللنجاة من جهة ثانية من تبعات الإرث الإرهابي الذي وضع عددا من قيادات صفه الأول أمثال صعتر والزنداني وعبدالله الأحمر ومحمد صالح الأحمر وعلي محسن الأحمر وآخرين في مرمى استهداف العديد من وكالات مكافحة الإرهاب الدولي والأمريكي، على ضوء حادثة تفجير سفارتي أمريكا في كل من نيروبي ودار السلام بأفريقيا العام 1998 وحادثة تفجير المدمرة الأمريكية "يو إس إس كول" في عدن في أيلول/ سبتمبر العام 2000 والتي أشارت التحقيقات في مجملها آنذاك إلى ضلوع تلك القيادات في أحداثها.
إذن، ولإنجاح مسعاهم الانتهازي والاستحواذي ذاك على منظومة المشترك وتجيير نشاطها لمصلحتهم، فقد كان لا بد -من منظور الخونج- من إزاحة الشهيد جار الله عمر أولا من صدارة المشهد السياسي والحركي، ما جعل عملية اغتياله هدفا مشتركا يجمعهم والرئيس صالح الذي تنفس الصعداء بدوره برحيل جار الله عمر، لانتفاء خطر بعث فاعلية التكتل الموازي لحزبه المهيمن على السلطة.
وتمكن الخونج رويدا رويدا بعد حقبة جار الله عمر من احتواء منظومة أحزاب اللقاء المشترك، وابتلاعها حركيا، عبر تجيير نضالها لخدمة أجندتها السياسية والحركية وبالشكل الذي تحولت معه فعلا ومع المدى أغلب منظومة المشترك إلى ما يمكن وصفه بفروع تنظيمية تابعة لحزب الإصلاح، وليس كيانات سياسية ذات شخصية حركية مستقلة.
في النهاية، استشهد الرفيق القائد جار الله عمر، وبقي الرفيق علي صالح عباد مقبل يقارع وحيدا دون سند حزبي حقيقي، في ظل مظاهر التشظي والانقسام الشمالي الجنوبي التي اعترت مختلف مكونات الحزب مذاك، لينعقد بعدها المؤتمر العام الخامس في تموز/ يوليو 2005 بما تمخض عنه من نتائج أسفر عنها وصول أكثر القيادات فسادا وانتهازية وانحرافا إلى موقع صنع القرار السياسي للحزب (شلة ياسين ـ باذيب) التي سرعان ما حولت الحزب إلى بيئة طاردة لأبنائه ومناضليه، مقوضة بذلك ليس فحسب كل أسس الاندفاع الثوري والحركي المحموم الذي كان قد شهد نوعا من البعث الحقيقي على أنقاض حرب صيف 94م بقيادة الرفيقين الراحلين جار الله عمر وعلي صالح عباد مقبل، بل وأسهمت أيضاً، أي شلة الثنائي ياسين ـ باذيب، في تقويض كل أسس الوحدة الحركية والتلاحم الداخلي للحزب، إلى حد أن كتلتنا البرلمانية للحزب والتي كانت توازي قبل مجيئهم حجم الكتلة الأسرية التي تشكلها أسرة عبدالله بن حسين الأحمر (كأسرة داخل البرلمان) تقلصت إلى النصف في عهد هذا الثنائي، عقب مغادرة واستقالة العديد من القيادات الحزبية المؤثرة، بمن فيهم برلمانيو الجنوب، أمثال صلاح الشنفرة والخبجي... إلخ.
ويبقى السؤال قائما حول ما الذي تبقى من مشروع سياسي وحضاري أمل الشهيد من خلاله خلاص الشعب من مأزق الديكتاتورية القبلية، رغم فداحة الثمن الذي دفع لقاءه، بدءاً بحياة الشهيد جار الله عمر ذاته، وانتهاء بما تبقى من إرث وحضور سياسي وحركي لحزب يعد الوحيد من بين كل منظومة العمل الحزبي والسياسي والحركي الذي يمتاز بحضور جبار ومتفرد على امتداد مراحل العملية الثورية الوطنية، فيما المستفيد الأبرز من وراء كل تلك الفوضى هم إخوان الرذيلة (حزب الخونج) الذين لم يتمكنوا من وضع المشروع برمته بما فيه أطرافه (منظومة المشترك) في كوره، أي في جيبه فحسب، وإنما أيضاً وضع البلاد والشعب اليمني برمته في مرمى استهدافه التآمري الذي لا يستكين.

أترك تعليقاً

التعليقات