ذكرى الجلاء..والثورة المغدورة
- محمد القيرعي الأثنين , 24 نـوفـمـبـر , 2025 الساعة 12:06:50 AM
- 0 تعليقات

محمد القيرعي / لا ميديا -
بعد نحو أسبوع، ستحل علينا وعلى بلادنا النازفة الذكرى الثامنة والخمسون لجلاء المستعمر البريطاتي عن جزئنا الجنوبي الأكثر نزفا في الوقت الحالي بعد أن وجد نفسه وبعد أقل من خمسة عقود زمنية على ذروة مجده وتألقه الثوري ذاك، يعاني من ندوب الاستعمار ذاتها التي عانى منها قبلا ولما يربو على الثلاثة عشر عقدا زمنيا مظلما.
هي فترة الاحتلال والهيمنة البريطانية لسيادته، وضحية في الوقت الراهن لاستعمار متجدد ومتعدد الأوجه (استعمار عربي -غربي -إفرنجي) مشترك، يؤمه معتمرو الدشداشات، ويشارك في تراجيديته الإجرامية، وباسم الدفاع عن الحضارة الموءودة، مرتدو ربطات العنق المموهة (الكرافتات) في ظاهرة فريدة ومتفردة من نوعها، جمعت كل أطياف الابتذال السياسي الدولي والإقليمي في سياق تحالف الرذيلة العدواني القائم (التحالف الصهيو -سعودي -إماراتي -أمريكي -غربي) المشؤوم.
وتلك بالطبع إحدى مفارقات عصور الارتكاس الثوري والحضاري التي لخصها الرفيق لينين بقوله: «إن الانتكاسات الثورية الحاصلة في بعض البلدان لا تشكل فحسب انعكاسا للجهل والتحيز فقط (على الرغم من وجود الكثير من الاثنين معا)، بل غالبا ما تكون مدفوعة بمصالح مادية هائلة على المحك بالنسبة لقوى الثورة المضادة والتي تراهن على تمزيق القوى الثورية في مجتمعاتها الداخلية عبر تعميم أشكال التمذهب الأيديولوجي العقيم واستنساخ التجارب السياسية المفلسة، والتي سرعان ما يصبح لدورها الارتدادي عميق الأثر على نفوس الجميع، باستثناء النفوس الثورية».
وهذا هو الشكل الحاصل اليوم في جنوبنا الممزق، والذي شكل إبان مرحلة الاستقلال الوطني التحرري وما تلاها أحد أكثر البؤر الثورية نشاطا ومثالية على مستوى المنطقة ككل، بالنظر إلى ما أفرزه آنذاك انتصار ثورة أكتوبر 1963م «في جنوب ما قبل الوحدة» من تداعيات ثورية عظيمة، ليس فحسب على الصعيد الوطني الداخلي، وإنما أيضاً على مستقبل الحركة التقدمية والثورية في نطاق منطقتنا العربية والعالم الثالث أجمع. استنادا إلى المكانة التي احتلتها عدن آنذاك (كموطن ثوري للنجمة الحمراء والمطرقة والمنجل) والجنوب عموما في خارطة القوى الثورية، حينما تحولت وفي خضم ألقها وتألقها الأكتوبري آنذاك، ليس فحسب إلى نقطة التقاء واستقطاب رئيسية ومحورية للقوى والحركات التحررية والثورية في العالمين الثالث والعربي خلال الحقبة التقدمية الشطرية، وإنما أيضا إلى نقطة ارتكاز أيديولوجي ظل يقض ولعقود مضنية مضاجع الإمبريالية الأمريكية العالمية وعبيدها المتربعين فوق عروش وممالك الرجعية الانبطاحية العربية، وبصورة لا يمكن مقارنتها بأي حال مع ما وصلت إليه اليوم حال عدن ومحيطها الجنوبي في ظل الانتكاس الوطني والحضاري المعمم على النقيض تماما من كل ماضيها الثوري الجبار.
فعروش وممالك الخليج الفارسي التي ظلت مرجفة وجزعة طيلة عقود الحقبة الثورية المنصرمة أمام طوفان المد الثوري الجنوبي، ها هي اليوم تدوس بنعالها المخضبة بكل خسة وقذارة العالم على جباه عدن والجنوب وأبنائه الذين باتوا صاغرين لبشائر الردة الثورية، ومتقوقعين في دهاليز العمالة المعتمة والانبطاح الانهزامي المشحون بالنزعات الانفصالية والتفكيكية المخجلة، غير مبالين البتة، لا بإرث أسلافهم الثوري والتقدمي الجبار، ولا بتضحيات أحرارهم ورموزهم الذين سطروا بدمائهم وملاحمهم أروع صور النضال التحرري الوطني الراسخ بثبات في الذاكرة الوطنية والشعبية، لدرجة أن بعض معتوهي العمالة الحاليين، وفي سياق دورهم التأمري المتسم بأسوأ وأحط أشكال الخيانة الكاملة للثورة وأهدافها ومبادئها، باتوا لا يخجلون البتة من الادعاء بأن ذرائع ومبررات عمالتهم المعممة بأوصاف وشعارات الوطنية العاطفية، تعادل من حيث أهميتها المحورية الانتصار النهائي لمفاهيم الحداثة الوطنية.
وهي مزاعم مقرونة بطبيعة الحال بتهورهم المخجل في استنكار نضالات أكتوبر والأكتوبريين (ثورة 1963م)، والتي يتعرض تاريخ صناعها وقادتها التاريخيين ومآثرهم الوطنية وتضحياتهم الملحمية للإدانة الوقحة، وبغيظ وحشي وحقد جنوني، تعكسه حملات الكذب والتدليس والافتراء النتنة التي تمس إرثهم الكفاحي ومكانتهم التارخية المحفوظة بجلاء في ذاكرة الأحداث والتحولات الوطنية، إلى حد نعتهم ببعض التوصيفات الشوفينية المبتذلة، عبر تصنيفهم كقادة وكرموز تاريخيين ومؤسسين لحركة الثورة الاشتراكيّة الوطنية، بوصفهم الأعداءً التاريخيين لتقدم واستقلال واستقرار «جمهورية الجنوب» التي يهيمن عليها اليوم نخب الشواذ المتربعين على إيقاع الردة والعمالة العلنية والممقوتة.
فاليوم، ومع حلول الذكرى الثامنة والخمسين لعيد الجلاء لم يعد للتاريخ الثوري والكفاحي الوطني أية قدسية أو أمجاد تذكر، بعد أن استبدلت أحداثها وملاحمها التاريخية بفتوحات ابن سلمان وعيال زايد، مثلما استبدل أيضا أسماء قادتنا الثوريين العظام؛ أمثال عبدالفتاح إسماعيل، وإبراهيم الحمدي، وسالم ربيع علي، وصالح مصلح، وعلي عنتر، وعلي شائع هادي، ومحمد صالح مطيع، ومدرم والعشرات غيرهم، بأسماء شلل المهرطقين والمقرمطين الجدد أمثال أبو يمامة، وأبو قمامة، وأبو حمامة، وأبو قتادة.. ممن تم استقدامهم من زوايا المواخير الليلية الرخيصة، بشعورهم المسربلة وأظافرهم المطلية بأحمر الشفاه، ليعتلوا سدة السلطة ويديروا دفة التحول الانتكاسي الراهن باسم الحداثة.
الأمر الذي قد يستعصي على شعبنا وبلادنا حقا الحفاظ على إرثهم القومي والوطني التحرري على المدى الزمني الطويل، ما لم يمتلك القدرة والإرادة والإمكانات اللوجستية لتخطي جذور الانتكاس الثوري والحضاري السائد، بالصورة التي لخصتها وتنبأت بها الرفيقة والقائدة والملهمة الشهيدة روزا لوكسمبورغ في تشخيصها الفلسفي الدقيق لمكامن الارتكاس الثوري، بقولها إنه «بدون الممارسة، بدون الفعل، وبدون اشتقاق أدوات العمل، ودون إمكانيّة أن تتحوّل إلى تطبيقات عمليّة أو تُترجم إلى وقائع، تبقى الأفكار أسيرة حيّز التأمّلات الأمنياتيّة التي بلا أنياب»، خصوصا إذا ما وضعنا بعين الاعتبار حجم القطيعة القسرية القائمة حاليا ما بين قوى وتيارات اليسار الثوري والسياسي في البلاد وبين ماضيها وتاريخها الثوري والوطني العريق، على غرار وضع حزبنا الاشتراكي الموءود اليوم بمخالب الارتهان والارتزاق النفعي الانبطاحي لقادته الحاليين الذين تجاهلوا بصورة مهينة ومخجلة باكورة إنجازاته التاريخية بوصفه الأداة الرئيسية لموجة التحرر الوطني التقدمي الفعلي والوحيد في مضمار ذاكرة الأحداث والتحولات الوطنية.
في النهاية، أنا على ثقة أكيدة أنه ومهما أوغل سماسرة الوطنية في غيهم الارتكاسي، ومهما استفحلت أشكال ومظاهر العمالة والانبطاح والتبعية لأعداء الشعب والثورة والوحدة والحرية الوطنية، فإن النضال من أجل استعادة المكانة التاريخية للثورة الوطنية التحررية سيندلع مجددا لا محالة، شاء الفرنجة والصهاينة وعبيدهم.. أم أبوا، لأنه، وفي عالم وطني وحشي كحال بلادنا المشحونة بالفرقة والصراعات وفوضى الحروب الأهلية المستعرة والمؤججة على الدوام بأنامل قوى العدوان الدولي والإقليمي والتي سعت جاهدة إلى تأجيج معاناة أبنائه ومجتمعاته المحلية بصورة غير مسبوقة، فإن الصحوة الوطنية آتية ومنبعثة ولا شك من ركام هذا الدمار المتراكم اليوم في حياتنا بفعل العمالة والعدوان، والردة الثورية التي لن تدوم بالتأكيد، لأن الأهوال والنكبات المنقطعة النظير والناجمة عن الحروب المنتجة بأمزجة عبثية تجعل الجماهير تتطرف في سخطها الذي لن تكون عواقبه محمودة لمن أذله وخذله وصادر أمنه واستقراره وحقه الطبيعي في العيش والنماء أسوة بباقي شعوب العالم الحر.










المصدر محمد القيرعي
زيارة جميع مقالات: محمد القيرعي