محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
«إسرائيل» لن تنسى بالطبع ولن تغفر بأية حال للرئيس البرازيلي هجومه وزلته المعادية للسامية بحسب تصريحات وزير الخارجية الصهيوني يسرائيل كاتس، صبيحة يوم الاثنين 19 فبراير الجاري، ردا على كلمة هذا الزعيم الأكثر نبلا وبسالة من كل قطعان العرب العاربة؛ السيد لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، والتي أدلى بها يوم الأحد الفائت أثناء حضوره فعاليات قمة الاتحاد الإفريقي المنعقدة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، متهما «إسرائيل» من خلالها بارتكاب إبادة جماعية بحق المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، ومشبّهاً ما يقوم به كيان الدنس بأنه يتطابق تماما من حيث مدلوله الإجرامي مع ذات النمط التصفوي الذي طال يهود أوروبا على يد النازيين إبان الحرب العالمية الثانية وما قبلها أيضا، أي منذ قيام النازيين تحديدا بسن قوانين النقاء العرقي المعروفة بقانون نورمبرج العام 1935.
وبالطبع وعلى ضوء هذا «الموقف المخزي جدا» من منظور نتنياهو الذي اتسم به الرئيس سيلفا والذي لم يكن بمثل وداعة محمد بن زايد مثلا ولا يتسامي أيضا مع تعاطف حاكم البحرين حمد بن عيسى بن سلمان بن خليفة حيال شعب الله المظلوم في إقطاعيته «أورشليم»، والذي أصبح على ضوئه -أي الرئيس البرازيلي- مغضوبا عليه بشدة من قبل دولة الكيان بمختلف زعاماتها السياسية في السلطة والمعارضة وفي اليمين والوسط واليسار، إلى حد أنه بات مصنفا حتى ضمن لائحة غير المرغوب فيهم بدخول أراضي الكيان، هذا إذا لم يصبح هذا الرئيس سيلفا وشعبه القابع في أمريكا الجنوبية مرشحين مثاليين لحملة مقاطعة سياسية واقتصادية (إماراتية -سعودية -بحرينية) شعواء وممنهجة وبذرائع سيتم ابتداعها ولا شك في المستقبل القريب، من باب متطلبات الدعم الأخوي بين الأشقاء في «أورشليم» ومشيخات الرذيلة في خليجنا الفارسي المسلوب.
فالرئيس لولا دا سيلفا الذي انتصر للحقيقة بصورة لم يتجرأ على فعلها أغلب زعامات العالم الموبوءة بالنفاق الأخلاقي في ما يخص معاناة غزة وأبنائها والشعب الفلسطيني عموما جراء ويلات الاحتلال الصهيوني المسنود غربيا وأمريكيا بصورة تقليدية راسخة منذ بداياته المشؤومة قبل سبعة عقود ونصف، أصبح اليوم هدفا لحملة تجريم صهيونية وربما دولية واسعة النطاق لن تتوقف بالتأكيد عند حدود الازدراء العلني لشخصه ولنظامه السياسي، بعد أن تحول بين ليلة وضحاها إلى عدو لا يستهان به ليهود العالم أجمع وإلى كاره ومحتقر لنقائهم العرقي ولحقوقهم المستلبة وسلامتهم القومية ولحقهم الإلهي المقدس في الدفاع عن كيانهم كشعب حظي ولوحده من بين جميع الأمم الأخرى بالحظوة والاصطفاء الرباني بصورة فريدة ومتفردة.
الأمر الذي بات على أساسه أيضا -أي الرئيس لولا دا سيلفا- من الداعمين الدوليين الكبار للحركات والمنظمات الموسومة بالإرهاب من المنظور الصهيوأمريكي بالصورة التي يمكن قياسها بوضوح من خلال الإمعان بموضوعية فاحصة بنوعية وطبيعة ردود الفعل الصهيوني الأولي والذي تجاوز دون شك حدود الأعراف والبروتوكولات الدبلوماسية المتبعة في العالم أجمع.. من خلال حرص معديه (وزير خارجية الكيان) على استدعاء السفير البرازيلي صبيحة الاثنين قبل الفائت لشجب تصريحات رئيسه علنا وعلى مرأى العالم أجمع، ووسط صخب دعائي وإعلامي عارم، وفي أحد أبرز محافل الابتزاز اليهودي التاريخي أيضا، والمكرسة في العادة لتخليد «ضحايا النازية».
إن أمرا كهذا يعد بديهيا للغاية، كون مثل هذا التجريم الصهيوأمريكي المحموم والمسعور بقوة ضد الرئيس لولا دا سيلفا على ضوء تصريحه آنف الذكر، وإن كان يعد في الواقع من وسائل الترهيب التقليدية المتبعة والمنتهجة أصلا وبانتظام ضد كل من تسول له نفسه التعبير عن دعمه أو تضامنه مع قضايا الشعب الفلسطيني المجني عليه، إلا أنه ومن الناحية الأخرى يبين ومن خلال استعار حمى الهستيريا «الإسرائيلية» المشحونة بالتحريض والتأليب والإدانات المتنوعة التي طالت لولا دا سيلفا ونظامه السياسي.. أن هذا النمط التخويني والتجريمي التقليدي -بذريعة معاداة السامية- لم يعد فاعلا ومؤثرا كالسابق جراء الانقلاب المتنامي في مواقف العديد من القوى وخصوصا في نطاق مجتمعات الغرب الأوروبي والأمريكي بمستوياته الجماهيرية والمدنية التي باتت تغرد خارج سياق التأثير الدعائي التقليدي لأنظمة الحكم الغربية المتواطئة لعقود مع الكيان الصهيوني، بالنظر إلى التحولات الحاصلة في معادلة التنديد بالفاشية «الإسرائيلية» والتي لم تعد حكرا على بعض المتنورين من الساسة والمفكرين الثوريين، بقدر ما توسعت لتشمل قطاعات واسعة تشمل إلى جانب القوى الاجتماعية المختلفة، كذلك رواد الفن والسياسة والنشطاء الحقوقيين والمدنيين الذين لم يعودوا مقيدين بالبروباجندا التقليدية المضللة التي سادت خلال أغلب مراحل التاريخ الوجودي المشؤوم لهذا الكيان الغاصب، بحيث ظل أي أمر يتعلق بإدانة السياسات الوحشية والإجرامية التي تتبعها وتنتهجها حكوماته المتعاقبة ضد الشعب الفلسطيني الأعزل يعد من المسائل المحرمة التي لا يمكن التنديد بها علناً، إلا من قبل القلة من الأشخاص الذين يبدون قدرا كافيا وملحوظا من العزم لتحمل العواقب المؤلمة.. على غرار دا سيلفا أو من سبقوه في هذا المضمار، أمثال المفكر الفرنسي الشيوعي، والإسلامي في ما بعد روجيه غارودي ومهاتير محمد، رئيس الوزراء الماليزي الأسبق، بالإضافة إلى الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد والعشرات غيرهم ممن طالتهم حمى التخوين للسامية وللحضارة الإنسانية إجمالا.
وعموما، يمكن القول إن المعضلة هنا تكمن من منظوري الشخصي في أن الغرور والعنجهية الصهيونية المعتادة باتت تقف حائلا على الدوام ما بين ساستهم وبين مقدرتهم المفترضة على فهم خصائص الواقع المتغير من حولهم أو فهم المضمون والمغزى الأخلاقي للتوأمة التي أوردها الرئيس البرازيلي في خطابه بأديس أبابا ما بين جرائمهم الحالية بحق الفلسطينيين وبين ما عاناه آباؤهم وأجدادهم في «الهولوكوست» على يد النازيين قبل قرابة ثمانية عقود مضت، والتي وبقدر ما أراد الرئيس لولا دا سيلفا -من خلالها- إدانة الهمجية «الإسرائيلية»، بقدر ما سعى وبشكل مؤكد إلى استحضار الأهوال المروعة التي ارتكبها النازيون في حق اليهود في أذهان قادة الكيان أنفسهم لإفهامهم بأن تاريخ المعاناة الإنسانية الهائلة بالنسبة لليهود والتي بلغت ذروتها خلال «الهولوكوست» لا ينبغي تطبيقها وبشكل معكوس من قبل الضحايا الأقدمين، ولأسباب ودوافع عنصرية أيضا مشحونة بالذرائع والمبررات اللاهوتية.
وهو الموقف الذي يمثل أيضا ومن الناحية المبدئية قناعتي الشخصية لا كمثقف ثوري أممي أولاً، ولا كعقائدي ماركسي ومبشر ثوري بعلم الاجتماع السياسي والاقتصادي، وإنما كـ»خادم» بالدرجة الأساس يحمل الهوية اليمنية التي تمنحني على الدوام صفة «اليهودة» وسط شعب يشبه إلى حد بعيد من حيث انحطاطه شعب الرب يهوه في «أورشليم»، خصوصا وأن موقفي إزاء المحرقة اليهودية ينطلق في الإجمال من مبدأ التعاطف المطلق مع ضحايا الكراهية العرقية للنازيبن، والتي شملت إلى جانب طبقات اليهود الذين أبيدوا حقا ودون مواربة وبمختلف نوعياتهم وفئاتهم العمرية، مثلهم مثل غجر أوروبا والزنوج الأفارقة الذين قاتلوا ببسالة في صفوف الفرنسيين مثلا، ما يجعلني فعليا «الخادم» الوحيد ربما من بين جميع الشعوب العربية والإسلامية (إن كان لايزال هنالك عروبة وإسلام فعلي) الذي يزدري إرث وتاريخ وإنجازات النازيبن في هذا الصدد، كما أنني الوحيد ربما أيضا الذي يجمعني بيهود العالم كافة رابط الكراهية المشتركة الراسخة والعميقة لكل ما يمت للنازية والنازيين بصلة، فهل بإمكان نتنياهو أن يدرك أن الواقع الدولي والإنساني من حوله لم يعد مهووسا بمصطلحاته التحريضية حول «معاداة السامية» بقدر هوسه في التكفير عن خطاياه التاريخية المرتكبة في حق الفلسطينيين جراء نفاقهم السياسي والأخلاقيِ الطويل الذي بدأ في التفسخ ولو بشكل جزئي؟

أترك تعليقاً

التعليقات