محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
مع اقتراب ثورة أيلول من بلوغ تاسعتها، بعد شهر من الآن، وبالنظر إلى ما تم إنجازه وما أخفق فيه أيضا خلال هذه الفترة، أعتقد أنه لو كانت أتيحت الفرصة خلال السنوات الثماني الفائتة من عمر العملية الثورية، سواء من قبل قوى الثورة المضادة والرجعية المحلية وأسيادهم من جلاوزة العدوان أم من قبل الرجعية الثورية المتغلغلة عميقاً في مفاصلنا الداخلية، وفي هيئاتنا الثورية (من "متحوثين" وغيرهم)؛ لكننا أنجزنا الكثير حقاً، وفي مختلف مناحي الحياة.
فالحرب والعزلة والحصار المفروضة على شعبنا، والدمار المخلف على كل مناحي الحياة المدنية والإنسانية، والتقويض العمدي لكل سبل النماء والتنمية الوطنية، بالإضافة إلى مظاهر الخلل الداخلي الذي شاب مسار العملية الثورية من قبل "أثوار الثورة ومتنمريها" المتربعين على بعض هيئاتها ومفاصلها الحيوية في الداخل والذين أسهموا دون شك ومن خلال رجعيتهم وبلطجتهم العلنية في غالب الأحيان في أبطاء مسار اندفاعها الثوري وتقويض قيمها، وإفقادها في أحيان عدة زخمها الجماهيري والشعبي، وخصوصاً في العديد من المناطق التي خسرتها الثورة خلال سنوات الكر والفر... كل تلك العوامل أسهمت مجتمعة دون شك في إبطاء عجلة الإنجازات التي كان المؤمل إنجازها، عدا عن تلك المحققة بالفعل والتي تكاد تكون محصورة في جانبها العسكري بصورة أدق، استجابة للحاجة التي فرضتها مقتضيات الصمود الوطني في وجه الغطرسة العدوانية التي أسهمت وبشكل رئيسي في تحفيز العقلية اليمنية المقاومة على الكفاف في ابتداع العديد من سبل وأدوات الردع والحياة والمقاومة.
فحينما يتعلق الأمر بما تم إنجازه فعليا على أرض الواقع، فلا ينبغي لنا في هذا الصدد إغفال حقيقة أن الصراع الضاري والمباشر مع قوى العدوان الخارجية والرجعية المحلية في الداخل كان له أثره المباشر في تمكين الثورة وجماهير الشعب من اكتساب قدر هائل من الخبرة السياسية والتقنية وفي آجال قصيرة نسبياً كانت كافية للتقدم والانتقال بسرعة من مرحلة إلى أخرى من مراحل التطور النوعي، الذي شمل جوانب عدة ومختلفة من سبل الحياة اليومية.
فكان الإبداع والتوسع في التصنيع العسكري إحدى علامات التفوق الثوري اللازمة لتخطي أسوار التقوقع والانهزامية، وخلق آليات ردع حربي حقيقي وفعال من بين ركام الدمار اللامتناهي الذي خلفه العدوان، وبالصوة التي مكنت ثورة أيلول من إكساب جيشها ولجانها الشعبية المقاتلة الخبرة والقدرة القتالية الفعلية على لجم قوى تحالف العدوان، وتحقيق توازن ردعي حقيقي معها بالشكل الذي بات يطال عمقهم الاستراتيجي المصون والمحرم سابقا.
فمن الابتكارات البسيطة لوسائل العيش اليومية في النطاق الاجتماعي إلى الصواريخ البالستية والمجنحة ذات الأمداء المتعددة والقادرة في بعض نوعياتها على تخطي العمقين السعودي والإماراتي لبلوغ عمق الكيان الصهيوني إلى الطائرات المُسيّرة بنوعياتها الحديثة والمختلفة إلى الزوارق والطوربيدات البحرية عالية الدقة والكفاءة.
والأهم من كل ذلك هو أن الثورة، ورغم كل نتائج الحرب والفوضى والعزلة السياسية الدولية والحصار الخانق برا وبحرا وجوا، نجحت بدرجة مثيرة للإعجاب في فرض نوع من الانضباط الأمني والسياسي والاقتصادي والمعيشي في كامل النطاق الديمغرافي لمناطق السيادة، حيث عملتنا النقدية المهترئة والممزقة تفي بأبسط شروط ومتطلبات العيش الشحيحة لمتداوليها، وحيث العدالة الجنائية وجدت طريقها للتنفيذ الفعلي والملحوظ دون أية تمايزات طبقية أو اجتماعية أو عرقية، مثلما بات في مقدور المواطن العادي أن يتنقل بأمان من تخوم مناطق الحوبان بمحافظة تعز إلى أحراش محافظة صعدة طولا وعرضا وفي أغلب مناطق السيادة دون أن يجد من يعترضه أو يسلبه ماله وروحه.
وذلك قياسا بمظاهر الفوضى الشاملة التي تكتنف كل مظاهر الحياة العامة في المناطق والمحافظات المحتلة، والمسنودة كما يفترض بدعم المجتمع الدولي وبدولارات أمراء النفط الخليجي، والتي تعيش في فوضى معتمة على مختلف المستويات، حيث الأمن منفلت كليا والمعيشة مقوضة والتضخم المالي والانهيار المعيشي وجرائم السلب والنهب والتقطع، كلها عناوين يومية في حياة المجتمعات المحلية المكتوية بشرور أمراء الحرب ومليشيا المرتزقة وأعوان العدوان.
وإنجازات كتلك تعد بديهية من وجهة نظري، كون الدولة في الأساس ووفق المفاهيم الثورية هي أداة السلطة والسيادة الوطنية ووسيلة التمكين الطبقي الفعلي والمباشر للفئات السائرة في ركبها، ومهمتها القصوى تكمن بشكل رئيسي في تنظيم العلاقات الطبقية وتمثيل "المصالح العامة للمجتمع دون تمييز عرقي أو طبقي أو شللي أو مناطقي أو مذهبي".
ويبقى الإخفاق الثوري الرئيسي لثورة أيلول/ سبتمبر 2014 كامنا -ربما ومن منظور تحليلي- في عجزها الملحوظ عن مكافحة الفساد المستشري بمختلف صنوفه (المادي والثوري والأخلاقي أيضا)، والذي لا يزال معشعشا في العديد من المفاصل الرئيسية للدولة، إلى حد أنه لا يزال يشكل أحد أبرز العوائق الرئيسية أمام استكمال مراحل التحول الثوري للمجتمع.
والفساد الذي أتحدث عنه هنا يتخذ أشكالا عدة ومتنوعة، فهناك الفساد الذمي والأخلاقي، الذي يشمل طوابير اللصوص والمتفيدين (من ذوي الشأن) الذين يعيشون بين ظهرانينا ويصرخون الصرخة مثلنا، لكنهم يعتاشون ويكدسون الثروات بالمليارات من خلال فسادهم وانحطاطهم الأخلاقي، فيما الغالبية العظمى من فئات الشعب تعيش على الكفاف، وفي وقت يعجز فيه أغلب موظفي الدولة عن استحصال أجورهم الشهرية إلا فيما ندر وبفترات متباعدة ومتفاوتة إن جاز التعبير.
أما الفساد الثوري فينحصر في أولئك المتنمرين والساعين -من وجهة نظري- من خلال نفوذهم السلطوي وزمرهم المليشياوية الفتاكة إلى أن يستبدلوا بمفهوم الثورة الوطنية الشاملة والعريضة الجامعة لكل فئات وطبقات المجتمع، ثورة أقلية ضيقة الأفق ومحصورة بفئة أو طبقة معينة ومهيمنة، بغض النظر عن حجم التضحيات التي قدمها ويقدمها الشعب تباعا من أقصى اليمن إلى أقصاه في سبيل الذود عن الثورة والدفاع عن مكتسباتها الوطنية.
هؤلاء الأخيرون هم الأكثر خطورة والأشد ضررا على مسار العملية الثورية برمتها، كونهم يسهمون دون شك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومن خلال فكرهم الانهزامي المحنط، في تحويل الدولة إلى وسيلة إخضاع للطبقات الاجتماعية الدنيا والمضطَهدة، وفي إبطاء عجلة التاريخ والتطور الوطني، وهو أمر ينبغي على قادة الثورة التصدي له قبل أن يستفحل ويتحول إلى معول هدم فعلي لكل ما تم بناؤه وإنجازه.

أترك تعليقاً

التعليقات