ثورة الهوية
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم  / لا ميديا -

يحق لمدينة عدن اليوم، أن تتباهى وتتكبر على سائر شقيقاتها في أبوة الاحتلال الأجنبي، ليس لأنها تحررت من هذه الأبوة القسرية، ودحرت الوصاية البريطانية غير الشرعية، وطردت جيوشها المحتلة، وانتزعت الاستقلال، فذلك ما فعلته كثير من الثغور البحرية والموانئ التي عرفت الاحتلال؛ إنما لأن عدن - وربما وحدها - هي التي قهرت إمبراطورية هذا الاحتلال، حين بقيت على أصلها اليمني ولسانها العربي وعقيدتها الإسلامية، رغم كل شيء.
ذلك نصر آخر لمدينة عدن، لا يقل شأناً عن مجمل انتصارات الشعب اليمني على مر التاريخ قديمه وحديثه، لكنه مع ذلك نصر مغمور، والتأمل فيه وإحياء دلالاته والاحتفاء برموزه، يكاد يكون معدوماً، رغم أن ثمة عيداً وطنياً يشهد احتفالاً سنوياً، لكنه احتفال بذكرى النتيجة النهائية لهذا النصر (الاستقلال)، وإحياء لإحدى وسائل تحقيقه (الثورة المسلحة)، وليس احتفالاً بذكرى النصر ذاته ودلالاته ووسيلة إحرازه الرئيسة.
مثل انتصار عدن في الحفاظ على هويتها، أساس انتصار الثورة، وأساس نصر الاستقلال، ولو لم تهزم عدن الإمبراطورية البريطانية العظمى، في معركة «الهوية»، لما قامت قائمة للثورة، ولما كُتب لها الإجهاز على غطرسة هذه الإمبراطورية الاستعمارية، وطرد قواتها من مستعمرة التاج البريطاني «عدن»، فالنصر الحقيقي السابق لاندلاع ثورة 14 أكتوبر 1963، والذي يفوق انتصار الثورة بسالة في تحقيقه وعظمة في تحققه، هو انتصار الهوية.
ينبغي أن يكون السؤال الأبرز لاحتفالات عيد الاستقلال (30 نوفمبر) من كل عام، هو: كيف صمدت مدينة عدن وجنوب اليمن المحتل إجمالاً، في وجه أعتى وأطول حروب «التغريب» وطمس الهوية التي عرفتها البشرية؟! كيف بقيت يمنية الأصل، عربية الانتماء واللسان، مسلمة العقيدة؟! هذه التساؤلات وإجاباتها، هي القيمة الفعلية المفترضة لاتخاذ ذكرى استقلال جنوب الوطن عيداً وطنياً سنوياً، وفي هذا النصر، نصر الهوية، ينبغي أن يكون العنوان الرئيسي للذكرى. 
كان انتصار عدن لهويتها اليمنية العربية المسلمة، تحدياً حقيقياً، جسد امتداداً فعلياً لحقيقة أن التحدي، سمة هذه المدينة منذ القدم، وإلا لما قامت بها حياة من الأساس، إذ لا ماء فيها ولا زرع، ولا ضرع ولا كلأ، صخرية قافرة، بركانية قاحلة عابسة، مناخها حار، وهواؤها جاف، وأمطارها نادرة وقليلة، ورياحها ملهبة.. ورغم كل ذلك قامت بها حياة وسكنها الإنسان بمختلف أجناسه منذ ما يقرب من 3000 عام.. فكان ذلك هو التحدي عينه.
صحيح أن مدينة عدن انفتحت منذ نشأتها قبل التاريخ على مختلف الأجناس والأعراق والأديان، بحكم موقعها الجغرافي الذي جعل منها «كزومو بولتيك» -أي مدينة مينائية كونية- تربط ملاحياً وتجارياً بين الشرق والغرب. لكن هذا التعدد في أجناس سكان عدن، ظل لأغراض سلمية هي التجارة والعمل، وفي ظل سيادة يمنية تامة، وأغلبية سكانية يمنية، فكانت لغتها الرسمية وثقافتها الرئيسة هي العربية اليمنية، وتدين بديانة اليمن: الوثنية، فالحنيفية، ثم اليهودية، فالمسيحية، فالإسلامية.
وصحيح أن «عدن» ظلت كذلك جامعة الأجناس والأديان، وقبلة طالبي التجارة والعمل والعلم من مختلف أرجاء العالم، حتى بعد إسلامها سنة 9 للهجرة على يد أبي موسى الأشعري، عامل رسول الله على مخلاف تهامة (زبيد ورمع ولحج وعدن)، واستمرت حتى أواخر القرن التاسع عشر، ودون أن تنطمس هويتها العربية اليمنية، أو تطمر ديانتها الإسلامية. لكن الأمر زاد حدة مع سقوطها في قبضة الاحتلال البريطاني، فأخذ انفتاح المدينة وجوهاً أخرى تتعدى الأغراض الإنسانية بكثير. 
أدركت بريطانيا مبكراً أن احتلال عدن لن يكون سهلاً في ظل قومية واحدة تجمع سكانها، وأن دوام احتلالها لن يكون ممكناً إن بقيت في هذه المدينة أي ملامح قومية قد تجمع السكان وتوحدهم ضدها، فحرصت منذ وطأت أقدام عسكر الكابتن «هينس» ساحل صيرة عام 1839م، على تهنيدها وتغريبها عن يمنها، وفصمها عن عروبيتها وإسلامها بشتى الوسائل والسبل الكفيلة بمحو تاريخ وهوية ولسان وعقيدة أمة، وليس مجرد قرية، مثل عدن لا يسكنها حينذاك «أكثر من 800 نسمة».
كانت أولى وسائل التهنيد والتغريب تلك تكوين مجتمع سكاني خليط من شتى أجناس البشرية، بما يطغى على الجنس اليمني العربي، ويجعلهم أقلية لا تذكر ولا تثير مجرد القلق.. وهذا بالضبط ما فعلته سلطات الاحتلال، فظلت تستقدم الجنود والإداريين والتجار والعمال من مختلف الأجناس، حتى استطاعت جعل سكان عدن مجموعة أقليات لا رابط ولا صلة بينها، لا في العرق ولا اللغة ولا الثقافة ولا الدين، ولا حتى في الوضع الاجتماعي لكل منها.
انتهجت سلطات الاحتلال البريطاني طوال 128 عاماً سياسة تغريب ممنهجة، استهدفت محو الهوية الوطنية لمدينة عدن، بدءاً بدك كثير من معالمها ونهب آثارها، ومروراً بتشجيع هجرة الجاليات البريطانية، والأوروبية، والصينية والشرق آسيوية، والهندية، والباكستانية، والفارسية، والصومالية، إلى عدن، وتوطينها ومعابدها وكنائسها ومدارسها وصحفها وأنديتها الرياضية والثقافية، حداً وصفها معه الرحالة أمين الريحاني بقوله: «وعدن اليمن مدينة عمومية لا أوروبية ولا شرقية ولا غربية..». 
ورغم هذا، وسياسة التمييز الاجتماعي بين الجاليات، و»فرق تسد» التي اتبعها الاحتلال البريطاني في جنوب اليمن، إلا أن مدينة عدن سجلت صموداً جسوراً في وجه سياسة تغريبها، فصمد أبناؤها ومثقفوها وأدباؤها وفقهاؤها وتجارها اليمنيون الذين سمتهم سلطات الاحتلال «الجالية العربية» وجعلتهم أقلية، وبادروا إلى تشييد المساجد والأربطة الدينية والمدارس الأهلية والأندية الرياضية والجمعيات الثقافية والصحف والمطبوعات اليمنية العربية، وغيرها مما أبقى على الهوية.
لم يكن اليمنيون في عدن أكثرية تذكر، لكنهم استشعروا خطر طمس الهوية، فأسهموا كلٌّ في مجاله، ومعهم بالطبع أبناء وتجار محافظات جنوب اليمن التي فرقتها سلطات الاحتلال إلى سلطنات وجعلتها محميات بريطانية؛ وبذلوا بسخاء يشح اليوم، حتى إن عدداً من هذه الجمعيات ومنها «حضرموت الخيرية»، كانت توفد على نفقتها طلاباً يمنيين للدراسة خارج اليمن، في سبيل دعم صمود الهوية اليمنية والعربية لجنوب اليمن في وجه سياسة التغريب البريطانية، وحفظ القيم الإسلامية.
تلك هي ساحة الهزيمة الأكبر لإمبراطورية عظمى لم تكن تغيب عنها الشمس لاتساع أصقاع مستعمراتها على وجه الأرض، وذلك هو جوهر النصر اليمني، التصدي لسياسة طمس هوية عدن ومحميات جنوب اليمن، والحيلولة دون إذابة قوميتها اليمنية العربية، التي أنتج صمودها الحركات التحررية النقابية والعمالية والثقافية والسياسية، وصولاً إلى تفجير الثورة الشعبية المسلحة، التي توجت انتصار الهوية اليمنية لعدن بانتزاع استقلالها عنوة في وقت كانت بريطانيا لتباسل بكل مستعمراتها لتبقى لها عدن.
هذه عدن.. جزيرة صغيرة الحجم، كبيرة بعمر التاريخ وأحداثه، تمرست التحدي منذ 3000 عام قبل الميلاد، وظلت مفاتنها محفزاً لأطماع جبابرة بني الإنسان المتعاقبين على مر التاريخ، فوقعت في الأسر مراراً، وحاول آسروها تكراراً مسخ هويتها لضمان دوام امتلاكها. لكنها حرة عنيدة، ظلت تلفظ غزاتها، قابضة على أصلها اليمني ولسانها العربي ودينها الإسلامي، وكان ذلك إعجازاً بحد ذاته، فضلاً عن إعجاز دحرها كل أولئك الغزاة وانتزاع حريتها عنوة من المحتلين دوماً وأبداً.

أترك تعليقاً

التعليقات