لم يتعلموا!
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -
يُقال في المثل الشعبي المصري الأثير “عَلِّم في المِتْبَلِم يصحى ناسي”. يقصد بالمتبلم المفرط في التبلد والغباء. وهذا -مع الأسف- حال جل المشتغلين في السلطة والمعارضة، لدينا في اليمن، طوال عقود. يبرز ذكاؤهم ودهاؤهم في جني المصالح الشخصية، ويستحكم تبلدهم وغباؤهم ما عداها!
شاهد هذا، أن هؤلاء، وهم أنفسهم من كانوا ومايزالون بواجهة المشهد والسلطة، لم يتعلموا -مع الأسف- من تجاربهم الطويلة في اللعب بالبيضة والحجر، ولا اتعظوا من انتكاساتهم العديدة، ولا من جملة ما تلقوه بطبيعة الحال، من نصائح مخلصة، لمن ظنوا للحظة أنه قد يأتي منهم خير للبلاد.
كنت أحد هؤلاء، ذات يوم، وكتبت ناصحا، سلسلة مقالات متلاحقة، نشرت في ذروة هيجان الشارع العام، مطلع العام 2011م، وبدء افتراق أركان النظام، واتجاههم في غمرة الاحتجاجات والاعتصامات إلى “القفز من القارب” الذي أسهموا جميعهم -ومازالوا- في خرقه وصولا إلى إغراقه!
مما قلته يومها: يجب أن يعلم السياسيون أن السواد الأعظم من الشعب سئموا إدارة البلاد بالأزمات وضاقوا باختلافاتهم الشكلية وضجوا بخلافاتهم الشخصية.. مَلّوا بصدق مزايدات الأحزاب عليهم ومضارباتها المصلحية في “بورصة السلطة” وتقديسها أسهم “المقاعد” وجحودها بمعاناتهم الحياتية!
يحلم السياسيون إن حدثوا أنفسهم أو توهموا أن الشعوب مطايا ترتقى، وتناسوا حقيقة أن الشعوب كلها لا تُجيب من لا يستجيب لهمومها، ولا تصافي من يأبى إنصافها، ولا تمالي من يُخيب آمالها، ولا تبالي بمن لا يبالي بأحوالها، ولا تداري من جَهِل مقدارها، ولا تعطي زمامها من يخفر ذمامها.
يجب أن يتذكر السياسيون، أن الشعوب -كل الشعوب- تميل إلى مَن يقول ويفعل، وتمل من يقول ويتنصل. تنحاز إلى صف مَن يعمل لتحقيق ما تريد هي لا إلى صف مَن يعمل على تحقيق ما يريد هو. تتحد مع مَن يتساهل وربما يتنازل في حقه هو ولا يتساهل أو يتنازل في حقها هي!
يتعين ألا ينسى كل السياسيين أن الشعوب تلتف حول مَن يقرر ويغير، لا حول من يُنَظِّر ويُبرر. حول من يأمل ويعمل ويُبَدِل ويَعدل لا حول من يتعلل ويتململ ويفشل.. تؤيد بكل ما أوتيت من قوة جارفة وطاقة هائلة، مَن يُدّبِر لا مَن يُدْبِر، ومن يُعَمّر لا مَن يُدَمر، ومن يُيَسر لا من يُعَسّر.
يتوهم السياسيون إن ظنوا أن الشعوب جاهلة أو غبية أو بليدة، فهي في الحقيقة واعية وذكية ونبيهة. قد تَغْفِل وربما تَجهَل لكنها لا تُستغفل أو تُجَهل. وتُقبِل على مَن يعترف بالحق ويلتزم الصدق، ولا تَقَبَل من يزيف الحق ويحترف الملق.. تسحب الثقة كليا عمَّن يراوغ ويكذب ويتلون.
ينبغي ألا ينسى السياسيون أن الشعوب تتمسك بمَن ينشغل بها ولا ينشغل عنها، يعدل مبتدئا بنفسه ويُحرم الظلم على نفسه قبل غيره. تؤمن بمَن يُمهل إنما لا يُهمل، وتعذر مَن يعترف بالخطأ وعنه يكفر بصدق وجِد.. ولا تصفح عمَن يتعجرف ويصر على الخطأ ويكابر ويتكبر!
ويخطئ السياسيون إن أغفلوا حقيقة أن مهمتهم الأولى ومبرر وجودهم تفريج الكروب لا تأجيج الخطوب، وتسييس شؤون الناس لا تيبيسها أو تنكيسها، ومعالجة المشكلات بمنطق سديد ولغاية التبديد وليس بمنطق بليد أو عنيد ولغاية التجديد والتوليد للمشكلات وبما يزيد التعقيد ويضاعف التنكيد!
يحتاج السياسيون في بلادنا -وليتهم يفعلون فينفعون أنفسهم وننتفع منهم- أن يتداركوا ما أهملوا أو ما تناسوه حتى نسوه، ويتذكروا أن الشعوب -كل الشعوب- لا تُمَلِك خلتها من لا يسد خَلّتها، ولا تُخْلِص دعاءها لمن لا يُفعم وعاءها، ولا تُفرغ ثناءها على من يفرغ إناءها!
نعم يحتاج السياسيون أن يصححوا حالا ما أخطأوا، ويتداركوا فورا ما تغافلوه. أن يتذكروا ولا ينسوا حقيقة أن الشعوب تحترم مِن يحترمها، وتُقدر مَن يُقدرها، وتقود وقد تُقاد ولكنها لا تنقاد.. تُعْجِز ولا تَعْجَز، تَغْصب ولا تُغْصَب أو تُغْتَصَب. تُرهِب ولا تُرَهّب، وتَغلِب ولا تُغلَب.
يلزمنا بحق أن يواجه السياسيون -كل السياسيين- وجميع اليمنيين، حقيقة مؤكدة، لا غبار عليها، ولا شك فيها أو لبس يعتريها، ويثقوا يقينا يتجسد قولا وسلوكا، بأن لا إنصاف يُجتلب بضيم، وأن لا شمس تُشرق مع غيم.. والله المستعان.

من مقال نشر في صحيفة الثورة، العدد (16954)، الأربعاء 13 أبريل 2011م، الصفحة الأخيرة، بعنوان “ليتهم يعلمون”.. واقتضت الحاجة إعادة نشره.

أترك تعليقاً

التعليقات