سِفْرُ الجبال
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -
مِن قاع الرذيلة ظلوا يُقْلِعون بعد احتساء ما يُغيب وعيهم عن جرأة وهول ما يصنعون.. يصعدون كثيرا وهم خائفون من أن تبتلعهم الجبال إن تثاءبت أو تسحقهم كالذباب إن هي تصافحت.. ينأون عنها بعيدا جدا حَذَر أن تتخطفهم مخالب أسودها، ويتسللون خِفية كما اللصوص، كاتمين أزيز محركات طائراتهم.
وما إن يبلغوا سماء صنعاء ويلقوا نظرة على عرشها المرصع بالنجوم، تحيطه حصون ربانية إحاطة السوار بالمعصم، ويرونها نائمة مطمئنة في دعة السكينة في سفح وادٍ بين التخوم، ممتدة في دلال ملكة متوجة بشموخ آبائها مكاربة سبأ وتبابعتهم، مكللة بأمجاد الزمان تتلحف الغمام وتحرسها العيون والقلوب؛ حتى يشتاطوا غضبا ويمتازوا حنقا وتستعر فيهم نيران غيرة نقصهم، يغذيه عار خستهم ليزداد سعارهم حد الجنون!
ما هَمُ الجبال يا صديقي إن قصفها الأنذال بجبنهم وانسلوا؟! تظل الجبال عصية المرتقى على حفاة الرمال من يأنف جبنهم النزال. هي ليست يا صديقي صخورا صماء كما تظن ويتوهم أشباه الرجال، مَن عقروا عقولهم بالعقال، بل آيات بأس شديد وأسفار عصور أمجاد، تنبض بالحياة والغِلال والسؤدد ومجد النضال.
هذي الجبال يا صديقي بخلاف كل ما يقال، صخرية بشرية، لها لون سحناتنا وأسماؤنا وصفاتنا وطباعنا، تجري في قممها كما في جروفها وحيودها، مياه سلوانا ومهجاتنا كما تدب فيها أرواحنا، وتحوي مآثر أجدادنا كما تواري نواميس ملوك أمجادنا، ومناجم ثروات سبقنا العالم إلى اكتشافها وتعدينها وصهرها وطرقها وسبكها وصقلها وصياغتها وتشكيلها، سيوفا وخناجر وفؤوسا ودروعا ونقودا وحليا، مدشنين العصر البرونزي ثم الحديدي في حياة البشرية.
نحن يا صديقي زرعنا صخر هذه الجبال حقولا، دَرَّجناها مروجا، ونحتنا حجارتها دروبا وسواقي وبركا وصهاريج وكروفا ومواجل وأنفاقا وحواجز وسدودا، واتخذناها قصورا وحصونا وقلاعا ومحافد ومخازن و”أيكة” كما شهد لنا الله ذو العزة والجلال، وقصفها لا يضيرها في شيء، فانهيارها كما هاماتنا ضرب من ضروب المحال.
عيبان وعطان ونقم أو غيمان.. جبال يمانية شماء باقية، على حالها منذ وجود “آزال” عاصمة ليمن ميمون بالرجال، مبارك بكريم الخصال وبأس النوال.. مهيبة صلدة كجباه من بعلاها سكنوا وطوعتهم وطاعت لهم واكتسبت إباءهم وبأسهم وأكسبتهم شموخها ومنعتها، فصاروا يعتمرون سماءها وتعتمر مساكنهم.
قمم هذي الجبال يا صديقي كانت كل واحدة منها مسبارا يناجي الله يوم كنتم لاتزالون بدوا لا يحسنون غير الترحال، ومن الجهل في عِداد الأرذال، تعبدون أصناما ونصبا وأزلاما تصنعونها بأيديكم وتأكلونها حين جوعكم، أعرابا تتوارثون طباعا تتجاوز الغلظة والجلافة والغدر إلى الأشد نفاقا وكفرا، كما قال بارئ الخلق والعالم بكل حال.
نعم، من هذه القمم يا صديقي ظل أجدادنا يرصدون الأقدار ويراقبون الأخيار والأشرار من البشر والطير والحشر، ويدونون معارفهم في الأسفار بقلم لهم وحروف أبجدية هم ابتكروها وأهدوها للإنسانية الأمية، يحصرون الأقمار والكواكب ويسمون النجوم مواقع ومنازل، ويُزَمِنون الرياح، مواسم ومواقيت وهبوبا، حتى أهدوا البشرية علوما شتى، وتقاويم لحساب الزمان المبتدئ بهم وليس غيرهم.
لقد اعتادت جبالنا لآلاف السنين وحفظت عنا وروت ما عَلِمْت وما لم تعلمه بعد ولن تعلمه من المعارف والخبرات والأقوال، من الأهازيج والألحان والأغاني والمقامات والأشعار والحكم والأمثال، مثلما اعتادت قممها مشاعل نار لا تنطفئ، تعلن كل إشعار وإنذار وقرار، وتستدعي الرجال إلى شرف النزال في ساحات وغى وقتال.
تلك جبال اليمن يا صديقي ليست مجرد أوتاد لهذي البسيطة أو مناجم لأحجار الزينة أو مرتفعات لنشر مدافع رمضان أو حتى مضادات الدفاع الجوي الأرضية، إنها أسفار عصور تنبض بالحياة والغلال والسؤدد وأمجاد نضال، ما يوما وهنت أو انكسرت لأنذال، وظلت مناجم تعدين رجال ما يوما هانوا أو خضعوا لأرغال، صغار عيال يعدون -إن عُدّوا- بضعة رغال!
* ملاحظة: من تدوينات للكاتب بحائطه في 19 مايو 2015م.

أترك تعليقاً

التعليقات