غيــــــــرة زائفـــــــة!!
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا-

جرائم القتل وكوارث الموت تغص الإنسان، وتثير فزعه بفطرته، كما تستثير غضبه وسخطه وتبعث على حزنه.. ذلك الأصل، وما من شك في أن الإرهاب مقيت ومدان، كما هو الإجرام ممقوت بكل صنوفه، وفي أي زمان ومكان، وتحت أي مبرر أو ذريعة أو راية، ومن أي جنسية أو هوية.
لكن الأكثر مقتاً حد التقزز، والأحقر فعلاً واستفزازاً للغضب والسخط، ينبغي أن يكون تشويه الفطرة الإنسانية السوية باختلاق مستويات محمودة وأخرى غير محمودة للقتل والإرهاب، وتعميم العنصرية في تصنيف الإجرام، وتدجين مواقف البشر حياله بصورة انتقائية!!
جريمة اقتحام مسجد في نيوزيلندا وقتل المصلين إرهاب سياسي أولاً، وإجرام وحشي ثانياً، ونتاج تطرف عنصري عرقي وعقيدي مدمر وكارثي... وهو قطعاً في ذاته جرم مدان، علاوة على تعمد تصويره والتباهي بعرضه وتعميم رواج أهدافه الترهيبية، فهو تأكيد لدوافع الإجرام وغاياته.
لكن الإجرام الشنيع، الموازي لهذا الجرم البشع، هو هذه الفورة الانتقائية لردود الفعل الدولية، الحكومية والمدنية، وكذا المجتمعية، في دول العالم الغربي والأوروبي، وبالطبع العالمين العربي والإسلامي. تشعرك بالتقزز، ويثير سخطك نفاقها وانقيادها لمن يوجه الرأي العام الدولي ووجهته.
محصلة ضحايا الهجوم الإجرامي الشنيع على مسجد في جنوب نيوزيلندا هي 53 مدنياً أعزل، بصرف النظر عن ديانتهم، فقتلهم كبشر هو الجرم المادي، وقتلهم بسبب عقيدتهم جرم معنوي. لكن الأمر نفسه يتكرر في غير مكان من العالم وبصورة مستمرة وبأعداد كبيرة من الضحايا، ولا تحظى وقائعه بردود الفعل نفسها.
هذا ازدواج معايير ماحق لقيم ومبادئ العدالة، وانفصام فكري مارق على الفطرة الإنسانية، ونفاق حارق لإرادة الشعوب، تصنعه ترسانة الإعلام الدولي ومنظمات الضغط (الحقوقية والانسانية) السياسية، فتبرز ما تريد وتثير الرأي العام متى ما تريد وتغمر ما تريد وتلهي الرأي العام عنه بل وتبرر الإرهاب وتسوغ القتل حيثما تريد!!
ما الفرق بين هجوم نيوزيلندا وبين الهجوم على صالة أفراح أو عزاء نساء أو رجال، أو الهجوم على حافلة طلاب مدرسة أو على سوق شعبية أو على منازل ومرافق مدنية...؟! الضحايا مدنيون أبرياء عزل وأعدادهم تفوق أحياناً عشرة أضعاف ضحايا مسجد نيوزيلندا، وبشاعة قتلهم أكثر فجيعة للنفس واستفزازاً لغيرتها وغضبها.
مع ذلك لا بواكي لهذه المجازر أو ردود فعل غاضبة وساخطة. لا شيء عدا الإدانة المكرورة المجردة من توصيف بشاعة الجرم والمنقحة من أي تسمية أو إشارة صريحة للجاني وأنه جانٍ ومجرم ضد الإنسانية، بل على العكس توكل للجاني مهمة التحقيق في حال لم يجد بداً من الإنكار، وإلا فالغالب اعتماد إنكاره وروايته!!
لا تحتاج الإنسانية لدموع التماسيح، ولا تعوزها العواطف الزائفة، ولا تنقصها المواقف المسيرة والغيرة المصطنعة، ولا تخدمها المعايير المزدوجة، كما لا تنجيها العنصرية ولا تحميها جغرفة الدماء ومذهبتها دينيا ولا فرزها عرقياً إلى دماء تستحق الغضب لأجلها ودماء يستمر بالصمت الطلب على سفكها كما لو أنها مجرد ماء، بلا قيمة أو مسحة بشرية!!
سلامة الإنسانية وسلام البشرية يحتاجان الانحياز للفطرة وما تمليه من انحيازات طبيعية ترسي قيماً ثابتة ومبادئ راسخة وأعرافاً شائعة. فالقتل يظل هو القتل، بشع وفاجع وأليم حتى وهو تنفيذ لحكم قضائي بالقصاص العقابي، فكيف حين يكون ظلماً وعدواناً، تجبراً وبغياً، الصمت عليه يغدو مشاركة فيه وتأييداً له، بلا أي عذر يمكن أن يبرره.
عدا ذلك، هي شريعة الغاب، التي تهاب الأقوى وتبرر افتراسه الأضعف، وتشاركه نصب الشراك للفرائس الأضعف وفي أدوات افتراسها، وقبل هذا وذاك في تأييد افتراسها كما لو كان حقاً مباحاً للأقوى بلا منازع أو رادع، رغم كون هذا يهدد الجميع: الصامت والمتخاذل، المؤيد والمتواطئ، الداعم والمشارك... فالجميع بذلك يسن سنة لا بد أن تدور عليه، إن ليس اليوم فحتما غدا.

أترك تعليقاً

التعليقات