درب المجد
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -

يقول الشاعر الراحل محمود درويش: «حاصر حصارك لا مفر». وفي حالتنا، يمكن أن نزيد: اقهر حصارك كسرا وابذر حريتك غرسا واحصد حياتك عزا. إذ لا يعقل أن نموت جوعا أو غرقا بسيول الأمطار، ونحن منذ الأزل وغابر التاريخ رواد هندسة منشآت المياه وعباقرة حصاد كل قطرة غيث (مطر) وقاهرو عطش اليمن وزارعو الصخر حقولا في كل جبل وواد. 
معلوم أن اليمن لم يكن وحضاراته الرائدة عبر التاريخ هبة نهر دائم الجريان أو بحيرات مياه عذبة الإتيان. ظل اليمن استثناء مدهشا بين سائر حضارات الشعوب والأمم، في تحدي ظروف موقعه وتضاريسه المتنوعة يراقب السماء ويرصد علاماتها وهبوب رياحها ويستعد بحذق وعزم لحصاد كل ما تجود به من غيث الرحمان، تشييدا وترميما لمنشآت مائية جاوزت أصنافها العشرين.
لكن غير المعلوم ولا المعقول هو استمرار غيبوبة الإنسان اليمني وفقدانه الذاكرة وجهله حقيقة ما كان وما ينبغي أن يكون، حد العجز عن التعامل مع سيول الأمطار وتصريفها، وهو أخبر البشر على مر العصور في هذا المجال وصاحب باع رائد وطويل يشهد بابتكاراته الفريدة فيه وبراعتها المؤرخون وعلماء وخبراء الهندسة القدامى والمعاصرون ظلت الزراعة إحدى حرف الإنسان اليمني الرئيسة ومظاهر حضارته وبراعته وريادته ورقي عيشه، وأحد أهم موارده الاقتصادية، وبالطبع مقومات سيادته واستقلال قراره وحريته. حتى بعد انحسار حضارته وارتهانه لهيمنة الخارج ووصايته، ظل القطاع الزراعي ثاني قطاعات الإنتاج بعد النفط، ويسهم بنسبة تتراوح بين 10٪ و15٪ من قيمة الناتج المحلي الإجمالي. 
هذه النسبة ترجع إلى أصالة هذه الحرفة في هوية الإنسان اليمني أكثر منها نتاج سياسات للدولة. ولهذا «يُعتبر القطاع الزراعي أكثر القطاعات الاقتصادية استيعاباً للعمالة ويشغل حوالي 54٪ من إجمالي القوى العاملة ومصدر دخل لأكثر من 70٪ من السكان»، رغم محدودية المساحة المزروعة من إجمالي المساحة الصالحة للزراعة والمقدرة بـ3٪ من إجمالي مساحة البلاد.
هناك اليوم جهود تبذل لاستعادة أمجاد اليمن بدءا بمجد تحقيق كفايته من الغذاء بالتوسع زراعيا، وتبعا حريته واستقلال قراره عن أي وصاية أو هيمنة خارجية تريد له الضعف والوهن، وتبعا الهوان والارتهان وتحويل أهله من شعب الغلال إلى شعب السلال كما هو اليوم بفعل استمرار هذه الحرب العدوانية الحاقدة والمجرمة وحصارها الجائر والمجاهر بغاية الإذلال.
وكل الأمل أن تبدأ جهود واسعة، رسميا وشعبيا، ترافقها حملة إعلامية جماهيرية ووجاهية مجتمعية، لإحياء إحدى أهم أدوات هذا المجد، وأعني حصاد المياه، ترميما وصيانة للمنشآت المائية القائمة من سدود وحواجز وكروف ومواجل وصهاريج وقنوات وسواق وبرك، وتشييدا لأكبر عدد من الخزانات باستخدام مواد البناء والتلبيس المحلية التقليدية ذات الفاعلية الكبيرة في هذا المجال.
هذه الأيام، بدأ الشتاء حزم سياط صقيعه وموجات برده راحلا عن بلادنا، مؤذنا ببدء فصل الربيع المحمل ببشائر غيث الرحمان طوال نحو 6 أشهر تمتد من فبراير وحتى أغسطس، وتدر في العادة ما يقدر بنحو 2.5 مليار متر مكعب خلال السنة، في الظروف المناخية الاعتيادية، وأكثر بنحو النصف مع التغيرات المناخية الجارية منذ أعوام.
لدينا رب كريم عظيم أكبر وأقدر من كل المتجبرين والطغاة، بصير قدير، سميع عليم، رؤوف حليم، ورحمان رحيم، وسعت رحمته كل شيء، وقادر على كسر حصار تحالف العدوان بما لا يخطر على بالهم ويتجاوز حساباتهم ويفشل رهاناتهم، على إخضاع اليمنيين لأجندة أطماعهم بسلاح التجويع وإحكام خناق الحصار.
لكن عون الله يستدعي أولاً إيمانا يقينا ثم سعيا حثيثا، والأخير يتطلب عزما. يُقال في المثل الشعبي الأثير: «ينزل الله البرد على قدر اللحاف». ويمكن القول بثقة ترقى إلى اليقين: يهب الله البأس على قدر الخطوب ويمنح القوة على قدر الصروف، وقد فعل جل جلاله ومنح اليمنيين مقدرة على الثبات والصمود بقدر يوازي إن لم يفق جور هذا العدوان وطغيانه.
ولما كانت العزائم يجب أن تكون على قدر الشدائد، والهمة على قدر المهمة؛ فإن المبادرة يجب أن تكون على قدر الحاجة، سبيلا للخلاص، الذي يستدعي منا صدق الإخلاص. وقد قال الشاعر أبو الطيب المتنبي: «عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ.. وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ* وَتَعظُمُ في عَينِ الصَّغيرِ صِغارُها.. وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ».

أترك تعليقاً

التعليقات