عن (الذين أحبوا تعز)
 

رئيس التحرير - صلاح الدكاك

هل نبشوا ضريح سيدي (عبدالهادي السودي)؟!
.. أجل فعلوا.
تآزر رباط عنق (عز الدين الأصبحي) الصفيق، ومعطف (إشراق المقطري) الليبرالي، ومعول (داعش) المعولم، ونبشوا أديم الأرض المعشب السادر على سلسبيل الوجد وخفقان القلب الصوفي العاشق..
نبشوه كما نبشت أظافر (هند بنت عتبة) أضلاع (حمزة) لتحنذ قلبه على لهب غلٍّ لا يُفسَّر..
كانت ضفيرة (أروى عبده عثمان) ملتذة ومنتشية، وهي تشهد طقوس القُدَّاس الأسود.. وكان جسد المدينة موسداً، وتومض على امتداده مئات النجوم الخضراء الموعودة بالمزيد من قداديس النبش.
تعودت أن أتسلق درج الغيم صبياً، صاعداً من أقصى المدينة، لأغفو قرب سيدي (عبدالهادي السودي) العاكف فوق ربوة ذات قرار مكين، عند سفح (صبر).
مع قدوم رمضان؛ هذا الزائر المهيب الجليل الشفيف الملهم، كنت أخلع دثار اليومي الخانق وسأم الوقت العاثر بين عقربين، وأرتدي خرقة الوجد متنقلاً على تراب يفوح أولياء، أعد المدينة القديمة حجراً حجراً، وأتمسح بالأضرحة، وألثم القباب، وأحلق بمحاذاة المآذن، متحرراً من أصفاد الفيزيقيا..
كانت مراقد الأولياء أشبه بعشرات القلوب المدروزة في جسد المدينة الواحد، تمده بحيوات لامتناهية، حيث لا برزخ بين الراحل والمقيم، بل حياة موصولة بحياة وخفقان موصول بخفقان، غير أن (الذين أحبوا تعز) اندفعوا يغمدون في كل قلب سكيناً, وفي كل طوبةِ سكينةٍ معولاً، بحثاً عن أرومة المدينة المحضة وأصل حياتها.. فباتت المدينة برزخاً بين موت ناجز وحشرجة حياة تنازع على حافة الموت..
ذات يوم مثلت أمام المحكمة متهماً، على خلفية تحقيق صحفي يدين السلطة المحلية بالفساد، وبتقويض القيمة الأثرية لقلعة (القاهرة)، والذين تضامنوا معي حينها، هم الذين يبتهلون اليوم لـ(وحوش الجو) وهي تجعل من القلعة أثراً بعد عين، هم الذين يؤازرون اليوم معاول المقت الوهابي وهي تنهال على جماجم الموتى وشواهد القبور، هم (الذين أحبوا تعز)!
ثمة (مارش جنائزي) اليوم قوامه ضفيرة حقوقية ورباط عنق ليبرالي وطربوش قومجي وقلم يساري وساطور يميني منقوع بالضحالة والغل، يذرع تراب المدينة بالطول والعرض، وينصب المشانق ويجندل الرؤوس، ويغتصب الضوء والطل والمهاجل والأغنيات، ويتبول على مشاقر الجبل ومزهر أيوب وريشة هاشم علي ومواجيد ابن علوان وساقية الشبزي وحوطة الأشرفية ورفات الجبرتي وعفاف المعتبية..
ثمة مارش جنائزي كنس عن تراب المدينة كل طاهر وجميل وخلَّاق، وأعلنها عالماً سفلياً للقاذورات والشواذ والقتلة واللصوص وخفافيش العتمة و(الذين أحبوا تعز)!
مرَّ عامان منذ لم يعد بوسعي أن أتسلق درج منزلي، عوضاً عن أن أتسلق درج الغيم صوب السماء..
وشرع مسوخ المارش الجنائزي، خلال ذلك، في إعادة تدوير المدينة إلى نفايات على غرار نفوسهم، بحيث بات الحنين بلا منتهى هو مدينتي، عوضاً عن مدينة باتت محض ذكرى..
زرت، رمضان الفائت، السيد سهل بن عقيل الذي انتقل للإقامة في صنعاء، منفياً من تعز، وعدت بغصة شديدة الوطأة لا تزال في حنجرتي إلى اللحظة..
بدا السيد سهل كـ(هديل) سلبوه وكره.. يتصنَّع المرح، ولا يعيشه حقيقة بعفويته المعهودة..
وأفكر، منذ أسابيع، بزيارة الفنان الكبير (أيوب طارش)، في مقر إقامته بصنعاء، غير أنني أعود فأسوِّف، تلافياً لغصة أخرى مؤكدة..
ترى هل يدرك (الذين أحبوا تعز) أننا ندافع عن صنعاء بوصفها (تعزنا) الأخيرة؟!
وكيف بوسع الذين استبدلوا بالوطن فندقاً أن يدركوا معنى الانتماء، ومعنى الوجد ومعنى الحنين؟!
.. إن دفاتر الشيكات لا تنبض، ولا تنتمي لغير دكاكين الصيارفة!

أترك تعليقاً

التعليقات