رئيس التحرير - صلاح الدكاك

بمنأى عن الاستغراق في البحث عن هوية أدبية لهذا النص الذي اعتزمت (لا) نشره على حلقات بدءاً من هذا العدد، نكتفي بالقول إن النص كفيل بتعريف نفسه للقارئ بلغته البسيطة الدافئة المباشرة المتوجعة الفرحة واللاهثة بطفولة على الطريق المفضي إلى (بدايات عُمْرٍ) لم تلتئم له نهاية عادلة، وظل عالقاً بين ثدي الوطن الذاوي وفطام المنفى الضنين القارس كرضيع ينتحب على صدر أم ذبيحة!
لغة تتفجر دلالاتها صعوداً من نافورة أحاسيس نبيلة خالية من الضغينة وغير كيدية تتحسس طريقها وسط غابة من الأظافر والنصال صوب حقبة تاريخية يمنية مغضوب عليها ومطمورة تحت رمال وصخور المحاذير وأغلال الروايات الأحادية المقدسة المطبقة على عنق التاريخ بقسوة ولؤم!
في ضوء صواعق ولهب الحنين تدلف الكاتبة قبو الحقبة المنسية وتهبط سلالمه المجدولة بغزل العناكب وصولاً إلى لحظة سحيقة من العام 1922م، لتبدأ رحلتها من أريكة أمها المحتضرة، مبحرة في خضم مآتم وأعراس ودموع وزغاريد ودماء وقصص حب ومؤامرات ومسامرات عائلية حميمة ودواوين شعر ودواوين حكم وأصوات مزاهر وفحيح أفاعٍ وأبهاء ملكية وسجون وولادات وإعدامات وانقلابات ومكائد حريم ونزوح وجوازات سفر و... منفى!
إنها كتابة اجتماعية (نوستولوجية) تحت سماء حمراء محتدمة بالصراع وحافلة بالأحداث، لا تخلو من زخات فرح تعشب قرنفلات حزن على امتداد رحلة شاسعة الوحشة، تطيح خلالها تقية بنت الإمام يحيى حميد الدين، بالصور المثالية الراسخة في أذهان كثيرين عن (الثورات الثلاث 48، 55، 1962م)، الواحدة تلو الأخرى، دون أن تتعمد الإطاحة بها، ودون تخطيط مسبق..
تعلق الكاتبة على الأحداث السياسية من نافذة نسوية خلفية، وبصوت خفيض محتشم، كامرأة يمنية من عوام النساء، فَتُنسي القارئ أنها ابنة واحد من أهم رموز التاريخ العربي الحديث والملك الأوحد بين الملوك والساسة العرب الذي انتزع الملك والاستقلال لبلده عنوة من خناق الاحتلال العثماني، عبر كفاح مسلح لم تثلبه إملاءات دول المحور أو الحلفاء ولا معوناتها الاستعمارية اللئيمة في عشريات القرن الفائت.
تسحب تداعيات الصراع السياسي نفسها في (مذكرات تقية) على هيئة فجائع تثخن قلب امرأة برعمت طفولتها وتفتق صباها وشبابها محشوراً بين شقي رحى لم تفتأ تدور وتهرس أفراحها بلا رحمة..
بين أب مهيب شغف فؤادها (علمه وورعه)، وزوج غامض مريض اختطفها من ربيعها الثالث عشر، وأسلمها فريسة غضة لأنياب الهجر قرابة عقد، بدعوى طلب العلم في (مصر).. بين أبٍ مغدور أجهزت عليه نصال الغيلة الإخوانجية والتآمر بـ(تدبير مخابراتي بريطاني)، وزوج عاود وصالها بعد هجر مديد، لتكتشف أنه كبير خلية المتآمرين، وأن سنوات دراسته في الخارج كانت سنوات طباخة سم المؤامرة ونقع نصال الغيلة به وصولاً للإجهاز على أبيها.. بالنسبة لقارئٍ جمهوري موتور، فإن قراءة (يتيمة الأحزان) هي مجازفة أبرز مخاطرها أن قناعاته الصلبة تغدو هشة وقابلة للكسر مع كل فاصلة من فواصلها، كما أنه لا مناص من أن يتلبَّسه خلالها شعور بالخسة والقرف حيال محطات كانت مدعاة للزهو والفخار لديه!
في البدء تمانع وتتفصد عرقاً ويتكهرب زغب مساماتك على عتبة الـ(يتيمة..) كمن يدلف (باراً) ليعاقر الخمرة لأول مرة، وما إن ترشف جرعة رضابها الأولى حتى تغرق في نشوة تواطؤٍ متفهم لا يخالجك معه مثقال شك في أن الكاتبة لا تعاود زيارة التاريخ بهدف فتح صندوق شروره الغافية، أو طمعاً في صك الإمامة وتاج الملك، وإنما أملاً في استعادة قوس قزح خلفته قبل نصف قرن يتأرجح والهاً عند شباك صباها العاثر ولم يمهلها ثقب المنفى الأسود لتضبه في حقيبة عمرها لحظة الرحيل.
تلفت تقية بنت الإمام يحيى ذهن قارئها بتأنيب إلى استشرافات أبيها المبكرة لمآلات القضية الفلسطينية، وتحذيراته مطلع القرن العشرين من خطر الهجرات الصهيونية التي أفضت لنكبة 1948م الموافقة لواقعة اغتياله، وبأدب جم وتوقير شديد تعاتب جمال عبدالناصر على خلفية دعمه وتأييده لـ(انقلاب تنظيم الضباط 1962م)، برغم ثقة دولة الإمامة به ومناصرتها وانحيازها لمساره القومي، ومساندتها وترحيبها بمشروعه للوحدة العربية.. إن قارئ الـ(يتيمة...) يعوزه قدر من رباطة الجأش بالعموم، وعلى وجه الخصوص عندما تروي الكاتبة مجريات اعتقال عشرات النساء والأطفال من ذراري وحريم بيت حميد الدين، على أيدي ضباط سبتمبر، وتنفيذهم إعدامات دون محاكمة بحق بعض إخوتها.. فصول حافلة أهال عليها المؤرخون تراب التعتيم، ووأدوها صوناً لماء وجه الثورة والجمهورية، تتكشف في ثنايا هذا النص ساطعة صادقة وذابحة كنصل رهيف قارس!
على متن (سفينة محاولاتها الشعرية ومدوناتها المتفرقة) أبحرت تقية بنت يحيى حميد الدين من الطفولة إلى المنفى، لتعاود الإبحار إلى الوطن بعد عقود، على متن (السفينة الورقية) ذاتها..
كتاب مغاير مخيف لا يقرأه أصحاب الضمائر الضعيفة وعديمو النخوة.. نضعه بين يدي القارئ على حلقات، إيماناً منا بأن فتح الجروح القديمة وتنظيفها أسلم لعافية أجيالنا من مواربتها وتركها تتخثر.
المقدمة:
الحمد لله الذي لا منتهى لعطاياه ومنحه، حمداً يقوم بالواجب من شكره ومدحه، والصلاة والسلام على أشرف نبي، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين.
هذه ذكريات وليست مذكرات، لا تسجل للأحداث باليوم والشهر والسنة، ولا تفصل وتحلل وتستنتج، وإنما هي نفثات أُلبست بجناني من القول القائد إلى الصبر، خضعت لكثير من أحكام الدهر وأقضيته، فقد ذهبت الأيام وما عاد ينفع الملام، تعاقب الزمان، وتغاير الحدثان، ولكنها لا يلحقها الريب، ولا يحيط بها الشك.
أحداث عشتها ساعة بساعة، ورأيتها تجري أمامي، فصولها كتبت بدم الشهداء الأبرار من أبناء أسرتي، والصابرين المصابرين من أبناء وطني، والكلام يزدحم في صدري، فاستلهمت صواب القول حتى يجعل الله لي من بعد عسر يسراً.
هي ذكريات مسطورة حدَّثت بها بيني وبين نفسي، وكلما فجرها صدع فؤادي الكليم، وصعدت من صدري مع زفراته، أبكتني وأفرحتني، وكأني أرى الحياة مواطن البؤس والشقاء ومستقر الآلام والأحزان، وكنت بحاجة إلى قطرات الدمع أفرِّج بها مما أنا فيه.
ذكريات جرت أحداثها في وطني اليمن، رسمت خطوطها خارج وطني، ورسمها العابثون بتراث بني وطني الذين أوغلوا في نزواتهم التآمرية، وعتوا عتواً كبيراً. اغتالوا إمام العصر، الشهيد الإمام يحيى بن محمد حميد الدين والدي، وغدروا بإخواني، ونفذوا إلى القربى من آل البيت الكرام الطاهرين، فألحقوا الخراب والدمار، والعسف والظلم والاستبداد بأبناء وطني.
إني لا أبدل نفسي نفساً غيرها، بل أروي ما حدث، ولا أحدث بما روي، أذكر تاريخ أمة في رجل، وحال وطن عصفت به رياح السموم العاتية، وكانت مؤلمة، صارخة، قاسية، فيها من الهموم والأحزان، ومواطن الشقاء ما تنوء بحمله جبال اليمن، ولكني وطنت نفسي على المصائب، وشجعت جلدي على لقاء النوائب، وبكيت مع الباكين، والباكون أصدق الناس حديثاً عن مصائبهم ونوائبهم.
هل يمكن لعاقل في هذه الدنيا أن يتصور أن زوجاً يتآمر لقتل والد زوجته، ثم يعود ليبث لواعج إخلاصه لزوجته ووالدها، ويذرف الدمع مدراراً على فقد ضحيته؟
كلها وقائع حقيقية عشت في أتونها، واكتويت بنيران حسراتها.
عايشت اغتيال سبعة من إخواني، وعشرات من أبناء وطني، علماء وفقهاء ومشائخ وأعيان، أخلصوا لربهم ودينهم ووطنهم.
في قافلة عمري تحملت ما تحملت، وشقيت شقاوة غرائب الإبل، ولقيت اليد التي تصون الدموع، وعرفت اليد التي تريق الدماء.
أبصرت غدر بني الآل، ورأيت الوفاء والشهامة والرجولة عند الكثيرين من أبناء وطني الذين شدوا أزري، وتحدوا التهديدات، وسخروا من التلويح بالعقوبات، فكانوا نعم الأهل والأبناء.
تلكم كانت ذكرياتي التي سعدت فيها برهة من الدهر، ومر بي فيها أحسن ما مر، وأمر ما كان من ظلم الزمان وعلقميته.
أين مني الخنساء، خيانة وغدراً، وسجناً وإرهاباً واضطهاداً؟ إن ذا لكثير.. وما عليَّ إلا التجمل بزمام الصبر، والعنقاء تنهض من بين أكوام الرماد.
كل حرف أوردته في ذكرياتي هو الحقيقة بعينها، إنها شهادتي أمام الله حيث لا ينفع مال ولا بنون، وإنما أرويها تذكرة وعبرة.
وصدق رب العالمين إذ يقول: (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية) [الحاقة: 12].
وحسبي الله ونعم الوكيل.

يمَّاه.. يمَّاه .. يمَّاه.. لن أنسى تلك الصرخات التي زفرت من أعماقي، ولن أمحو تلك الحيرة التي ما لها من نفاذ حين تعلقت بالملاءة المسبلة على ذاك الجسد الممدد.. عينان محدقتان ببرود عبر الألم، وحياة انطفأت ببطء ووهن.
أتشبث بأهداب الملاءة وأولول، والأمهات والأخوات يحاولن منعي، فألقيت بنفسي على الأرض نائحة بكلمات حزينة محزنة؛ يا يماه هل تركتني وحيدة؟ يمَّاه.. إني أحبك، لا ترحلي، وكأن الجزع قد ملك صبري وبلائي.

يتبع العدد القادم

أترك تعليقاً

التعليقات