رئيس التحرير - صلاح الدكاك

ليس للإمارات عديد بشري ميداني في اليمن فماذا يعني انسحابها؟
الخلاص من جثة الشرعية يعوزه صناعة خرافة بديلة 
أمريكا - بريطانيا- روسيا التباينات تتقاطع عند مضيق مائي يمني

صلاح الدكاك / لا ميديا-
الانسحاب الإماراتي التدريجي المزعوم من الجنوب المحتل هو مؤشر لأزوف تدشين سيناريو كتبنا عنه مراراً، ويتلخص في الزج بالأراضي المحتلة إلى دوامة تصفيات بينية تفضي بالقصدية الأمريكية البريطانية لسيطرة ما يسمى "داعش" كخيار ملائم لمآزق المدير التنفيذي للتحالف العاثر بعد قرابة نصف عقد من عدوانه على اليمن وصمود شعبنا الشريف وانقلاب موازين الاشتباك ميدانياً لجهة الجيش واللجان الذين يجهزون بوتيرة متسارعة على خرافة المملكة السعودية بضربات متلاحقة وقاصمة لمفاصلها الحيوية والعسكرية.
ما المتاح الممكن للمدير التنفيذي الأمريكي البريطاني أن يفعله إزاء كل هذا الفشل والغرق الحثيث لكيانات الطفرة النفطية وتعاظم رسوخ يمن ثورة 21 أيلول ودخولها بقوة كرقم وجودي وازن وفارق في معادلة الصراع بالمنطقة؟!
يعتقد المدير التنفيذي أن إزاحة طيف اللافتات المحلية العميلة التي تمترس تحالف عدوانه خلفها في حربه طيلة نصف عقد (ما يسمى الشرعية والانتقالي تحديداً)، لجهة التمكين لـ"داعش" في الأراضي اليمنية المحتلة، ستتيح له تدوير إخفاقاته بما يشرعن تواجده العسكري ممثلاً في القوام البشري العميل والمرتزق ذاته المنضوي تحت التحالف، لكن بـراية أمريكية مباشرة ليست راية التحالف "إعادة الشرعية"، وبعنوان مغاير لعنوانه "الحرب على الانقلاب"... هذه الراية والعنوان سيتمظهران في "تحالف دولي للحرب على داعش بقيادة أمريكية"، كما هو الحال في شرق وشمال شرق سوريا الذي احتلته الولايات المتحدة بقناع مثيل، وأيدتها روسيا والصين فيه، وباركتا مشروع قرار أممي يضفي شرعية على هذا الاحتلال المقنع لمساحة شاسعة من أراضي الجمهورية العربية السورية، بذريعة أن الأخيرة فاقدة للسيادة عليها، وأنها أصبحت جزءاً من أراضي ما يسمى دولة الخلافة "داعش"! 
معهد واشنطن للدراسات ـ في سياق تناوله لتسريبات الانسحاب ـ أكد أن القوات الإماراتية ستواصل نشاطها ضد الإرهاب ـ حد توصيفه ـ من مركز قيادتها في حضرموت... هذا المركز كانت قد أنشأته الإمارات في أبريل 2016، معلنة حينها أنها بصدد الحرب على الإرهاب لا "إعادة الشرعية"، وهي استدارة تكتيكية مهدت لها الإمارات بدور تسليم بينها وبين ما يسمى القاعدة في لحج ووادي حضرموت، وجرت بالتزامن مع توقيع الرياض على اتفاق تهدئة في الـ10 من أبريل، مع أنصار الله، وبدت تلك الاستدارة الإماراتية كما لو أنها ردة فعل عقابية من قبل الإمارات للسعودية، في حين نظرت إليها هذه الأخيرة كخذلان من شريك رئيسي في التحالف، غير أن المدير التنفيذي كان هو الآمر الفعلي والمنتج لتباين الأدوار على ذلك النحو بغية توزيع بيض رهاناته على أكثر من سلة.
غير أن تلك الاستدارة التي بدت حينها انسلاخاً من التحالف، لم تفض إلى نقصان في ميزانية العدوان، فقد استمرت الإمارات تدفع الحصة التمويلية المالية ذاتها للتحالف.
استمراراً لسياق التدوير التكتيكي، فإن ما أشيع عن انسحاب إماراتي من جزيرة "ميون اليمنية المحتلة" لصالح أكذوبة "خفر سواحل الشرعية"، يؤكد فرضية إعادة الانتشار الأمريكي البريطاني تحت لافتات مغايرة للافتة تحالف العدوان.. تمثل "جزيرة ميون" أحد مصراعي باب المندب، وإذ أعلنت حكومة العدو الصهيوني مراراً خشيتها من "سيطرة الحوثيين" على هذا المضيق الهام للغاية، واعتبرت مثل هذه السيطرة تهديداً لما سمته الأمن القومي لإسرائيل، فقد فردت الإمارات ومصر (تحديداً) غطاء حضور غير مباشر لكيان العدو الصهيوني عبر شراكة مصرية عسكرية في التحالف على مستوى بحري، وجرى الإعلان لاحقاً عن إنشاء قاعدة عسكرية مشتركة إماراتية مصرية أمريكية في جزيرة "ميون"، لكن هذه القاعدة كانت ولاتزال تفتقر لغطاء شرعي يمني، لذا فإن الانسحاب الإماراتي من الجزيرة لصالح خفر سواحل مزعوم تابع لهادي، هو تمثيلية هزلية فاضحة يراد من خلالها إسدال ولو غلالة شرعية مهلهلة على عري الاحتلال الثلاثي للجزيرة، والذي تلعب إسرائيل فيه دوراً محورياً من الباطن.
في الوقت ذاته، فإن القوام العسكري الثلاثي المحتل سيبقى، لكن تحت اسم دلع آخر هو "خفر سواحل شرعي"، إذ إن أمريكا لا تجرؤ على اللعب بورقة داعش في هذا الجزء الحساس من طرق الملاحة الدولية.
على الضفة البرية المتاخمة للمضيق تقاتل الإمارات بقوة بشرية مؤدلجة وهابية بايعت معظم قياداتها الميدانية البغدادي، في وقت سابق، خليفة للدولة الإسلامية المزعومة، كما تضم في سدتها وصفوفها عناصر متعددة الجنسيات مجلوبة من سوريا.. وفي الوقت الذي يجري الترويج لهذه العصابات الناشطة في الساحل الغربي بوصفها جنوبية ونواة لوهم "جيش الاستقلال الجنوبي الذي سيكون عصب دولة الانفصال المتوهمة"، فإن الحقيقة المسنودة بالمعطيات تقطع بانسحاب جل التشكيل القبلي الجنوبي المقاتل بمعية التحالف في هذه الجبهة، وهو ينتمي في معظمه لقبائل الصبيحة، والأسبوع قبل الفائت حاولت الإمارات تخصيص لواء جديد لأبناء الصبيحة، فقوبلت بالرفض القاطع... وتأتي هذه المحاولة الإماراتية في سياق خشية أمريكية من تقارب قد ينشأ بين الصبيحة وصنعاء ينتفع منه الجيش واللجان الشعبية في تأمين منفذ بحري لاحتياجاته العسكرية عبر التهريب كما تعتقد دول العدوان، وأخطر من ذلك أن هذا التقارب المرجح قد تنجم عنه عملية عسكرية مباغتة تقوم بها صنعاء بظهير من "المسيمير والأزارق" (شمال شرق لحج)، وتفضي لسيطرتها على "العند ورأس العارة" كإطلالة حاكمة على اعتناق بحر العرب بالبحر الأحمر، وهو ما سيزنزن عصاباتها المتقدمة في الساحل الغربي، ويجعلها بلا قيمة ضاغطة لجهة "ستوكهولم الحديدة" ولجهة جولة مشاورات سياسية تتركز حول "ملف تعز"، يسعى غريفيتث حالياً للدفع صوبها؛ كما سيسلب الإمارات تأثير مناورتها "الانفصالية" على المزاج الجنوبي.
إن أياً من الدول المنضوية في تحالف العدوان على اليمن أو الدول الغربية المشغلة لهذا التحالف، لا تستطيع في الراهن إعلان وفاة ما يسمى الشرعية رسمياً، وإن كانت تقر بصفرية سيادتها على ما تسميه "الأراضي المحررة"، إذ إن من العسير على هذه الدول إيجاد الإطار البديل الممكن دون الحصول على موافقة صنعاء، لذا فإن السيناريو البريطاني المقترح هو تهيئة صنعاء الأنصار وعدن الانتقالي لخوض حوار سياسي شطري كسلطتي أمر واقع، وهو سيناريو يبدو أنه يلائم توجه روسيا ذات النفوذ الماضوي في الجنوب، على أن الشطرية المفترضة تقامر بجعل "مأرب والجوف وتعز" في متناول سيطرة صنعاء، الأمر الذي ترى معه أمريكا أن التهيئة "لداعش" هي السيناريو الأنسب الذي سيتيح إعلان وفاة الشرعية الميتة أصلاً لجهة إطار ذرائعي مضمونه الحرب على داعش بقرار أممي، ففي هذه الحالة لن يكون بمقدور صنعاء الانتفاع من وفاة "الشرعية" لادعاء حقها في السيادة على أراضي الجمهورية اليمنية، كما لن يكون بمقدورها قانونياً التقدم عسكرياً صوب المناطق المحتلة التي ستكون حينها محكومة بقواعد اشتباك تنتمي للقرار الأممي المنشود، والذي لا تمثل صنعاء طرفاً فيه تماماً كحال "دمشق" في علاقتها بمسرح النشاط الأمريكي على الأراضي الواقعة شرق وشمال شرق سوريا حيث تنتشر القواعد الأمريكية العسكرية.
في سياق متصل فإن السعودية المثخنة بضربات الرد والردع لن تكون موضع مطالبة صنعاء لها برفع يد التحالف عن جنوب اليمن المحتل كثمن لوقف الضربات الجوصاروخية على المملكة والانسحاب من جنوبها، في حين يوفر سيناريو تسريب أخبار "الانسحاب الإماراتي من اليمن" غطاء لأبوظبي يدرأ عنها وعن مدنها ضربات يمنية قادمة في إطار استراتيجية الرد والردع الراهنة، حد توقعات مهندسي هذه السيناريوهات في واشنطن، لندن، وليست موسكو، بكين، بعيدتين عنهما.
هذا هو المسعى الأمريكي المقصود من وراء سيناريو الانسحاب المزعوم؛ لكن أفق تمريره دون الاصطدام بمفاجآت استراتيجية الرد والردع يبقى معدوماً ومضبباً بالكثير من التداعيات الوجودية الفادحة التي تخشاها أمريكا وتحاول تلافيها بالسيناريوهات الثلاثة الآنفة.

أترك تعليقاً

التعليقات