رئيس التحرير - صلاح الدكاك

صلاح الدكاك / لا ميديا -

المنشد والفنان الكبير عبدالرحمن العمري أشبه بربيع لم يجد المناخ المواتي لينفح كل عطره.
في كل مرة يُلقي نفسه في مهب اعتناق الرياح بالعواصف علها تأخذه إلى حيث يتضوع محاميل خمائله، وفي كل مرة لسوء الطالع ربما، لا يُطوّح به الهبوب إلى مبتغاه.
في عقود الوصاية الخوالي كان المناخ الثقافي والفني خانقاً ومفخخاً بفئران البنكنوت وقوارض الحظوة المتمسحة بجذوع وأقدام ندماء الخليفة الذين يمنحون لمن شاؤوا صكوك الشرعية الثقافية، ويمنعونها عمن شاؤوا، وكان الفنان عبدالرحمن العمري كنظرائه من قامات منذورين لعراء المشهد الفني وخَدَر المقايل وصالات الأفراح الشبيهة بسرادقات عزاء ينتحر المبدعون على تكاياها مشفوعين بضجيج وصخب ومكاء وتصدية الأشداق والأكف اللاهية على نحيب المزاهر والراقصة غير آبهة بالغث والثمين من النتاجات، ولا فرق لديها أكان المغني زرياب والموصللي أو حنش وصغير العقاب... قضى فريد الظاهري نحبه وهو يلاحق توجيهات الفندم عفاش بإنشاء مسرح وطني للفنون، بعد أن لفظ أنفاسه دفعات في إخراج مهرجانات الزعيم من «خيلت براقاً إلى أعراس الجذور».. واليوم فإن بلدنا يتعرض لعدوان كوني منذ 5 أعوام، ولولا ذلك لكان لدى الثورة التي أطاحت بسلطة الوصاية متسع من الوقت لتجترح فضاءات مواتية لتظهير الإبداعات الأصيلة والهادفة بحيث يتضوع ربيع المبدعين عطره المائز والخلاق، ولا تموت الخمائل مختنقة بعطورها الحبيسة متحولةً إلى سُمِّيات على قارعة مواسم العطاء وريعان الوقت.
لولا العدوان الكوني لكان لدى الثورة متسع لتفعل ذلك كله، ولكان لدينا متسع لاختبار وجهة زخمها ومداه وسمو رؤيتها للفنون والمناشط الإبداعية الإنسانية جزراً انعزالياً أو مداً مفتوحاً على معراج الرقي بالإنسان من حضيض الجمادات واللاآدمية إلى سماء الآدمية الفاعلة والكاملة في كل منحى.
حزم الدرويش عبدالرحمن العمري حقيبة أشواقه المهيضة، وغادر إلى القاهرة بأمل أن يستعيد لحظة ولادة تسعينية غابرة على مسرح «دار الأوبرا المصرية».. لحظة أجهضتها سياقات نشأته الاجتماعية وغبار زمن الوصاية بعد أن كاد - باعتقاده الباطني-  يتخلق صوب ما تتوق إليه حنجرته من فضاء عابر لقمقم التوشيح الذي وُلِدَ الفنان في ضيقه كخيار على روعته كلون فني أصيل.
أراد العمري استعادة لحظة «دار الأوبرا» التسعينية الكثيفة، من خلال خشبة معرض القاهرة الدولي للكتاب، فهل أمكنه ذلك؟.
ما رشح عن الفعالية الفنية التي أحياها الأسبوع الفائت في القاهرة من تسجيلات هو امتداد لكوكتيل تسجيلاته المبثوثة من جوالات الأصدقاء إلى اليوتيوب بصورة رديئة سوقت الفنان كمجذوب محبط لديه موهبة تستحق الفرجة على عظمة نتاجاته في التوشيح ظهوراً وتوثيقاً صوتياً وبصرياً.
كان يمكن لحكومة الكساح في صنعاء ووزارة لفافاتها أن تمنح متنفساً لقامات من قبيل عبدالرحمن العمري، وتعقد وسائط صلة رفيعة بينه وبين محبيه في فضاء مفتوح من المناشط والفعاليات الثقافية والفنية التي تثمن المبدعين ضمن المشهدية الشعبية اليمنية، لا بالانسلاخ عنها، وتأخذ بأيديهم صوب تتويج مستحق على منصات ومسارح عطاء وطني، عوضاً عن أن يتركوهم نهباً للآخذين بأيديهم وأوجاعهم إلى مزاد الإتجار بالأحلام في سوق مضاد للوطن وقضاياه.
أتحدث هنا عن العمري الإنسان ومن هم من طينته النبيلة والفذة، لا عن المجبولين على مسح الأجواخ من جوقة الزعيم النافق والمهووسين بالخلجنة ومجوهرات البقرة الإماراتية النطاحة أحلام. فجوقات الابتذال هم أبعد من أن تحترق أناملهم وتكتوي أرواحهم بأوجاع وأشواق الفن الإنساني النبيل والخلاق.
لا أعتقد أن خشبة «قاهرة السيسي» يمكنها أن تبلسم أحزان الدرويش الهائم بما يرتقُ صدوع روحه الشفافة المجنحة؛ وسيعود حتماً ليطوي عليها من سماء صنعاء القديمة جناح الكتمان حتى إشعال آخر للبلد وإنسانه وكنوزه الغافية تحت ردم عدوان مديد.

أترك تعليقاً

التعليقات