عبيد وأمريكان
 

رئيس التحرير - صلاح الدكاك

بالنظر إلى طغيان الإسلام الوهابي الامبريالي عالمياً، بحساب انتشار بناه التحتية الدينية والتعليمية والتربوية في معظم بلدان الخارطة الكونية، فإن تأجيج وجدان الشعوب والأقليات المسلمة في العالم إعلامياً على خلفية (مأساة مسلمي بورما)، لن يستجلب سوى موجات نصرة داعشية قاعدية وهابية، هي ـ برأيي ـ ما تتوخى المطابخ الصهيونية الأمريكية تحقيقه من ريع عبر هذا التأجيج.
استهدفت الغزوات الامبريالية الأوروبية للشرق العربي والإسلامي منذ فجر الاستعمار الحديث، تجفيف منابع تيارات الإسلام المحمدي التحرري والعلوي الثوري، وتعبئة نشاز وانحرافات وتدليسات إسلام البلاط الأموي العباسي العثماني في قمقم معملي غربي لتطلقها ـ لاحقاً مع بزوغ عصر النفط ـ في هيئة مارد وهابي مسخ مطواع لجهة مشاريعها النازية، وشديد في مواجهة الحركات الفكرية والاجتماعية الوطنية والقومية والدينية المناوئة للاستعمار والهيمنة.
يمثل عبدالقادر الجزائري وعمر المختار والإمام يحيى حميد الدين، وجمال عبدالناصر وحافظ الأسد والخميني، إشراقات تاريخية للإسلام المحمدي العلوي التحرري الذي أحدث خرقاً لايزال يتسع في مضمار جملة نجاحات المشروع الاستعماري الغربي على مستوى تدجين وتطويع المجالين الروحي والمادي في الشرق لهيمنته واستحواذه.
إن تقويض خرافة الخلافة الداعشية المدججة بخبرات وإمكانات الغرب الامبريالي، اليوم، على يد محور المقاومة و(أنصار الله اليمنية)، يعد الضربة القاضية الأقوى بين كل الضربات التي تلقاها المشروع الاستعماري الغربي برأسه الأمريكية، على امتداد قرابة قرن ونصف القرن من اشتباكه التاريخي مع شعوب الشرق العربي والإسلامي.
الضربات الخوالي كبحت جموح المارد الوهابي في بعض الحيزات الجغرافية مؤقتاً، وألحقت به مستويات متفاوتة من الأذى الجسدي، فيما أصابت ضربة محور المقاومة والأنصار روحه في مقتل، في أعلى مرحلة من مراحل جموحه وجبروته المادي.
ترتيباً على إدراك الإدارة الأمريكية هذه الحقيقة، تحاول اليوم تدوير حطام داعش للانتفاع منه في تفخيخ تخوم التنين الأصفر الصيني، انطلاقاً من يقينها بأن (الشرق الأوسط) لم يعد خاصرة رخوة لمشاريعها، بعد أن ملأته حركات الإسلام المحمدي العلوي الثوري حرساً شديداً وشهباً أبطلت سحر الوهابية، وبات على الإدارة الأمريكية أن تناور بحثاً عن موضع رخو مؤاتٍ لإعادة موضعة داعش، وبما يلبي حاجتها وحاجة حظيرتها الأوروبية لتلافي موجاته الارتدادية عليها كبلدان منشأ وتصدير لإرهاب أغرق سوريا والعراق بمئات الآلاف من شذاذ الآفاق الوهابيين طيلة الأعوام الـ7 الأخيرة.
توفير وطن بديل لداعش في جنوب شرق آسيا (ميانمار، الفلبين،...) يلبي تماماً ليس الحاجة للاحتماء من ارتداداته السلبية على بلدان المنشأ الغربية، فحسب، بل وإعادة تدويره للانتفاع منه في الحرب الباردة مع الصين ودول البريكس.
لا تجرؤ واشنطن على نشر منظومتها الصاروخية في المجال الحيوي الاقتصادي الصيني، متذرعة بلجم تهديدات كوريا الديمقراطية لها..
إنها مرغمة على أن تشاطر بكين المشورة في هذا الملف، وأن تحرص كل الحرص على ألا تثير حفيظتها.. لذا فإن استزراع داعش آسيوية في قلب النسيج البوذي يبدو الذريعة الأمثل لتواجد عسكري أمريكي نشيط ونوعي على تخوم الصين.
في مايو الفائت ـ وفيما كانت خلافة البغدادي في الموصل تتآكل ـ أذاعت وكالات الأنباء خبراً مفاده (سيطرة داعش على مدينة في الفلبين)، وسارعت واشنطن لإرسال مدد عسكري أمريكي قالت إنه (تلبية لطلب من مانيلا) التي نفت ذلك، ولم يغير نفيها شيئاً في الأمر، فقد حطت أقدام المارينز ومهندسي المخابرات المركزية الأمريكية حيث تريد.
ومنذ حوالي أسبوعين هيمنت أخبار (المجازر البوذية بحق مسلمي الروهينغا في بورما) على الشاشات ووسائط الميديا بصورة باغتة وفجائية، وتعددت ردات الفعل المناصرة والمتضامنة مع (الضحايا)، فدعا البعض (لإرسال مقاتلين)، والبعض أرسل (مساعدات إنسانية)، على أن معظم ردات الفعل المبكرة صدرت عن عواصم (وهابية إخوانية)، ولعل استشعار (طهران) خطورة الاستثمار الأمريكي الواضح في هذا الجانب، هو ما دفعها إلى الدعوة لتشكيل (قوة إسلامية عسكرية مشتركة) تتولى فض الاشتباك (البوذي ـ الإسلامي الافتراضي في بورما)، في تحذير مضمر من مغبة (التعبئة الانفرادية) المرجحة المتذرعة بـ(النصرة) لإعادة بناء ما انهار من (خرافة داعش) مجدداً.
من الواضح أن (ميانمار ـ بورما) بالنسبة لـ(الصين) اليوم هي بمثابة (أفغانسان) بالنسبة لـ(الاتحاد السوفياتي) بالأمس، أو هكذا تريد لها الإدارة الأمريكية أن تكون.. فهل يقع التنين الأصفر في الفخ ذاته الذي وقع فيه سلفه السوفيات؟!
يتعلق الأمر بمدى استيعاب صانعي القرار في بكين لدروس الماضي القريب؛ والإجابة على السؤال لماذا أمكن لأمريكا تكتيل قوة الشرق العربي الإسلامي في معاركها ضد خصومها وتحقيق النصر عليهم؟!
في قمة انعقادها الأخيرة أعلن قادة (منظمة شنغهاي) أن الحرب على الإرهاب في آسيا أولوية للمنظمة، وكشفوا عن أن (حركات إرهابية بعينها) ستكون الهدف القادم لحربهم؛ غير أن هذا كله لا يغني عن حقيقة افتقار الصين ـ كقوة عظمى ترأس تكتلي شنغهاي وبريكس ـ إلى أحد أهم عناصر القوة التي يمتلكها نظيرها اللدود الولايات المتحدة.. ذلك العنصر يتمثل في (طاقة التعبئة الروحية) الأهم بكثير من (طاقة الذهب الأسود).
لقد عثر العقل الاستعماري الغربي على ضالته في (الإسلام الوهابي) الذي فتح له بوابة الهيمنة الواسعة على كنوز الشرق العربي والإسلامي، وكان رافعة مصالحه غير المشروعة، ولا يزال جواد الرهان بالنسبة إليه، على الرغم من النهوض المثابر لحركات الإسلام المحمدي المناوئ للهيمنة والاستكبار.
لا تستطيع الصين ولا الهند، ولا روسيا، أن تعبئ شعوبها في مواجهة مسوخ الوهابية الأمريكية التي قضمت (باكستان) في الأربعينيات من قوام الهند، برعاية بريطانية، وأطاحت بالامبراطورية السوفياتية، وتوشك أن تفترس الصين ذات المليار ونصف مليار نسمة، بدءاً من شرارة احتراب ديني عرقي مفتعل.
وإزاء هذه الجائحة الوشيكة لن يكون الرهان على مبدأ التشاركية الأممية الذي تلتزمه بكين ـ موسكو مجدياً، فالحرب غير التقليدية التي تبرع فيها واشنطن يستعصي لجمها من خلال القوانين والمعاهدات والمواثيق الدولية الناظمة صورياً لعمل الأمم المتحدة وهيئاتها والضامنة لـ(السلم الدولي!).
تحارب أمريكا خصومها بعقيدة اقتصادية جيوسياسية دينية حضارية معقدة هي حصيلة لقرون من نشاط خطاب الاسشتراق والعلوم الاجتماعية والحفريات التاريخية الآثارية والمعرفية التي أعادت إنتاج البشرية في صورة مفاهيم نمطية تتماشى مع هيمنتها على كل المباحث الإنسانية.
لم يكن (هنتنغتون) يهذر عندما وضع خارطة (الصدام الحضاري الحتمي بين غرب أبيض مسيحي ديمقراطي فرداني متحضر، وشرق أصفر إسلامي بوذي متخلف وحاقد على الحضارة الغربية)؛ وكذلك حال نظيره (فوكوياما ـ الأمريكي ذي الأصول اليابانية الآسيوية)، الذي قطع بـ(نهاية التاريخ) لجهة المفاهيم الأمريكية كأعلى سقف حضاري بشري ممكن تحقيقه وآخر أطوار الترقي.
كلاهما كان ـ بطبيعة الحال ـ يضع النظرية الإرشادية التي تعوز صناع القرار في الإدارة الأمريكية من محافظين جدد وقع العالم برمته في قبضتهم، وينبغي إعادة إنتاجه هويةً ومساراً ومصيراً طبقاً لمصالحهم بوصفها مصالح عليا للبشرية جمعاء.
ثمة إمكانية واحدة فحسب لتعبئة الشرق وشعوب جنوب الكرة الأرضية عموماً في مواجهة خطر التذويب والمحو والفناء بين أشداق داعش: التشبيك السياسي الثقافي العقائدي الحضري مع محور المقاومة وحركات الإسلام المحمدي الثوري التحرري القائمة على مفهوم (الأخوة في الدين وفي الخلق والتدافع البشري في إطار حفظ التوازن الكوني والإنساني على تنوعه).
إن طاقة الهدم الهائلة التي استولدتها الكولونيالية الغربية من التراث الإسلامي، يقابلها طاقة هائلة خلاقة تصب في بحر نماء العالم على اختلاف شعوبه وقبائله، وتهذب مفهوم الصراع بناظم التعارف والتشاركية القيمية لا دمغ الأجناس والألوان وتنميطها في بوتقة (التفوق العرقي والحضاري لأمة على غيرها من الأعراق والحضارات).
إن تجربة (الثورة الغاندية) أوضح مثال في هذا الخصوص، فهي نتاج خلاق للمزج الذي اعتمده المهاتما بين روح الجهاد في الإسلام ونورانية الحق عند الهندوس (الساتاجراها ـ قوة الحق).
تلك هي النظرية الإرشادية للمستضعفين اليوم في الشرق وما دونه من جهات وأمكنة تهرس الآلة الأمريكية ضلوع شعوبها بجنازير الوهابية.
إنه أفق مؤاتٍ أمام محور المقاومة و(أنصار الله) لتجاوز (المقاومة) بمفهومها السلبي صوب فعل إنساني أكبر يستهدف تحرير الإنسانية، حد مقاربة الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي.

أترك تعليقاً

التعليقات

عماد الشامي
  • الأثنين , 25 سـبـتـمـبـر , 2017 الساعة 1:09:42 PM

قراءة عميقة و ثاقبة لمسار الصراع الحضاري ومآلاته .. المقال مشورة وافية لصناع القرار السياسي في محور المقاومة والثورة و الأنصار