رئيس التحرير - صلاح الدكاك

بلد يمقت (العافية) ويعشق (الكُسكُس)
المغرب السادس.. من وعيد الرصاص إلى وعود الأزاميل

تنويه:
كُتب هذا الاستطلاع
في فبراير 2010م
لم يحدث أبداً أن زلزلني مكان بكل هذا الجنون والسخاء والنشوة، كما فعل المغرب.
بتوقيت الأنفاس الفاصلة بيـن شتاء 2004م وصيفه، وقعتُ - مثل نحلة ظامئة - على أزهار ضاحية (بلودان).. تلك المعزوفة المخملية المتاخمة للبنان من الأراضي السورية. مضى زمـن طويل تعايشت - خلاله - مع شعور مستبد، بانقطاع الرجاء في أن أتلقى صعقة أخرى إزاء مكان، كالتي خبرتها حينها. لكن رتلاً متصلاً من الصعقات الأثـرى والأعلى حدة كان يكمن لي على تماس شرفة الرمل العربية الأبعد، مع المحيط الأطلسي.. حيث تنزوي بتصوف واحدة من أندر (يوتوبيات الواقع)، وحيث (لا تعلم نفس ما أخفي لها من قرَّة أعين) جزاء ما أكلت الرتابة وبلادة الوقت منها.
قلت ذات فكرة سابقة، إن 3 أرباع عمر الواحد منا، هي فائض وقت يذهب عبثاً في محاولة استعادة المذاق الأول للأشياء والخبرات والأحداث.
لم أفارق تراب (اليمن السعيد) - لسوء الحظ - سوى مرات قليلة يفوقها عدد أصابع اليد الواحدة. حيـن طرت صوب دِمشـق كنت أخوض تجربة الفراق الحلو الأولى من كل بد. قطعت ـ حينها - بأن كل تجربة لاحقة لن تكون أكثر من تكرار، لا يستـفـز أحاسيـس غير مكتشفة في قاع الروح و.. فقط بضعة أيام في المغرب، صفعت يقيني على قفاه، بأمكنة تتسع فيها الرؤية وتضيق العبارة.. أمكنة تجدف فيها بغير الحواس الخمس.. وفيما أنت تحاول اكتشافها تكتشف نفسك.
يا إلهي.. لماذا لم تخلقني مغربياً
يوجد في موضع ما من الذاكرة - حتماً - كهف معتم، تتكدس فيه مختبئة، تجارب وجودية خضناها  بحواس عزلاء، قبل أن يتخلق لدينا وعي صارم بالحياة واللغة والمجتمع، ومنطق يضبط المسافة بيننا وبين الطبيعة ومحيط كينونتنا كبشر.. من يتذكر ـ مثلاً - أول زخة مطر تكسرت قطراتها على خده الطري؟! لقد جرى لاحقاً تعريف هذا الإحساس البكر، الناجم عن التحام جدلي أول بين الإنسان والطبيعة، بالمطر والبلل والحاجة الماسة للماء.. لكن لحظة الالتحام تركت - قطعاً - دلالات جامحة لاتروضها اللغة، فانزلق الإحساس ليتوارب في مكان ما من الذاكرة.. أجدني بحاجة إلى هذه (السفسطة) لأقول إن ارتطامي غير المتوقع بطبيعة مغايرة في المغرب، فجَّر مخزون التجارب الساكنة في سديم ذاكرة الطفل لدي، وسطع بقوة مبدداً عتمة الكهف عن أشياء عصية على التعريف.
إننا أصدق ما نكون في حالة الغيبوبة والهذيان، وقد جعلتني الطبيعة المغربية أهذي وأغيب.. صرخت في صباحي الأول، وأنا أفيق على صلوات العصافير وفضاء الغرفة المفعم بالندى: يا إلهي.. لماذا لم تخلقني مغربياً؟! (لا يعنيني ما إذا كان بين المغاربة من يبتهل بعكسي،.. كنت أهذي فحسب).
حملتنا سيارة (مرسيدس) ليلاً من مطار (كازابلانكا)، وتوغلت بنا لأكثر من 100 كيلومتر، بحساب أن السائق ضل الطريق إلى المكان المخصص لإقامتنا. لم يكن بوسعي أن أتحسس طبيعة المكان من حولي إثر 3 ليالٍ من السهر وتعب رحلة طويلة. خمنت أننا نوغل في ريف، لشحة الأضواء من حولنا وفرط السكون، وصباح اليوم التالي، أفقت في (مخيم مولاي رشيد للشباب والطفولة) في منطقة تعرف بـ(بوزنيقة) باذخة الخضرة على مسافة قريبة من المحيط الأطلسي.
صحوت يملؤني يقين غامض بأن القصيدة ستصالحني، وبأنني على وشك كتابة استطلاع مكان استثنائي ونادر.
عشت وسط موج بشري قوامه 1500 مشاركة ومشارك من مفكري ونشطاء ومجانين اليسار. حضر (ماركس وجيفارا وغرامسشي وسارتر ودرويش ومارسيل خليفة،.. وسرب طويل من أيقونات العدالة الاجتماعية بمفهوميها الديمقراطي والراديكالي). وطيلة 3 أيام تنوعت الفعاليات التي ركزت في مجملها على استقراء الكلفة الثقيلة لهيمنة القطب الواحد وسيادة صناديق الإقراض الدولية والعولمة النيوليبرالية، على شعوب جنوب الكرة الأرضية (أين كان هذا العالم مخبأً قبل أن أفيق فجأة عليه؟! لقد بدا أن شمس اليسار الجديد تشرق من المغرب).. من وسط حرج ريفي غزير اللون في الضفة الجنوبية المقابلة لأمريكا.
***
لا يتيح لك المغرب فرصةً للملمة شظايا انكسارك الحتمي لحظة ارتمائك بين ذراعيه.. على عجل يشرع في هندستك ليبرأك خلقاً جديداً، تحت إيقاع أزاميل الماء والضوء واللون. ينبغي أن تشك في إنسانيتك إن عجزت عن أن تنكسر وتتشظى قطعاً في حضرة التراب المغربي والحياة المغربية، ولم تشعل الثواني الأولى هناك، فتيل انقلاب وجداني كبير في أعماقك.
قبيل أسابيع من زيارتها، كنت بالكاد أقوى على فرد قامتي، فقد عاودتني نوبة هبوط ثانية، ولزمت الفراش لأيام شخت خلالها كثيراً، وشعرت برائحة عجوز تفوح من مساماتي، ثم سرعان ما تفجر ربيع ثري تحت جلدي، حتى اعتقدت بأنني لو فردت ذراعي هنا، على هذه الحافة الخرافية من الكوكب، لكنت قادراً على الطيران والتحليق، ولا ريب.
في زمن عربي سحيق كبح قائد فتوحي موتور ومثخن بغيلان الصحراء، جماح خيله المتعطش للسبي عند اختلاج مياه المحيط، وزعق متحسراً: (لو أعلم أن أرضاً خلف هذه الأمواج لخضتها فاتحاً..)..
لاحقاً، وفي الضفة المقابلة للضفة التي شهدت حسرة القائد، كان (الفرنجة الجدد) الذين ضاق بهم البر، يجتاحون (بحر الظلمات) بالاتجاه المعاكس لفتوحات الصحراء، صوب بلاد المغرب، تباركهم وتقاتل معهم آلهة العلم الحديث.
تثبت الأمكنة التي رشحتها البوصلة الفرنسية للاستعمار تحديداً، ذوقاً سليماً ورفيعاً للفرنسيين. تجاوز مكوثهم القرن في بعض هذه الأنحاء. لم يكونوا محض جنود، بل حملوا ذراريهم وسلالتهم ليستنبتوها من جديد في فردوس ترخص كل ضريبة باهظة في سبيله. أخلصوا لحلمهم حد ارتكاب المذابح، وحين تضاعفت الكلفة وانحسر المردود، انسحبوا تاركين الفردوس المستقل لمذابح أخرى، يصعب تعليق رؤوس ضحاياها على مشجب الأجنبي..
هل يمكن العثور على شبه بين انسحاب العرب من الأندلس الغربية، وانسحاب الغرب من الأندلس العربية؟! لا أعتقد.. ففي الحالة الأولى سلمت الهوية العربية المهزومة مكانها لهوية أوروبية صاعدة فتية، وفي الحالة الأخيرة سلمت الهوية الغربية غير المهزومة مكانها لفراغ، لم تتخلق ـ بعد - هوية جامعة تملؤه، ولا تزال عشرات الهويات المتخيلة تتقاتل حوله والدم يراق على جوانبه.
تقول (أحلام مستغانمي) في ثلاثيتها المعروفة: (طردنا الأجنبي، ثم تزاحمنا طوابير على أبواب سفاراته طمعاً في الالتحاق بهويته أو الحصول على تأشيرة دخول للعمل في أراضيه).
لأزمة المغاربة إزاء مسألة الهوية، نفس خاص، وعلاقة عميقة بأسئلتها. سرعان ما انهارت جسور القومية التي ثابر (عبد الناصر) على مدِّها، وانتهى الحال بأن تربع النفط كهوية وحيدة في بلدان المشرق العربي، فيما واصل المغاربة تجديفهم في اختلاج أسئلة الهوية بحثاً عن مرفأ. إنهم يكتبون - في الغالب - بلغة أجنبية (فرنسية) ذات نزوع عروبي إنساني، على نقيض لغة عربية تكتب بها شريحة من المشارقة، تتسم بنزوع قطري انعزالي، أو تستفرغ مضمونها كلياً لتمتلئ بخطاب غربي لا يتقاطع إيجاباً مع الحاجة لوجود حضاري مائز.
يطلق علماء الاجتماع المغاربة مصطلح (الانبتات) للتعبير عن الطور البنيوي المشوس الذي دفع الاستعمار الفرنسي بالمجتمعات المغاربية إليه، لاسيما مجتمعات الريف والبادية، فقد اقتلعها من جذورها، لكن عملية دمجها في أنموذج مدني لم تكتمل.
لم يمنح الفرنسيون هويتهم للمكان، قدر ما حرصوا على اجتثاث هوياته وتعميق انعزالها وتناحرها.
ستلجأ الحكومات الوطنية التي استلمت الحكم عقب الاستقلال، إلى التأصيل لهوية عربية إسلامية يتنافس عليها 3 تيارات : يساري أممي، يساري قومي، يميني أصولي محافظ.. غير أن الهويات العرقية الطامحة داخل القطر الواحد، لن تتلاءم مع محاولات تذويبها تحت هذا التأصيل (الفضفاض)، لتبدأ مرحلة معقدة من الصراع وعدم الحسم، طرحت أسوأ ثمارها في تسعينيات الجزائر، بينما لا تزال الأيدي قابضة على السلاح في الصحراء المغربية، وقاع العمل السياسي في تونس محتقناً، وأبرز مكوناته رهينة الكمون في الظل! في الأثناء يبرز المنفى القسري والطوعي كقاسم مشترك بين الفرقاء، وينوب عن الفضاء العام المفقود.. هذا الفضاء الذي يرى مراقبون أنه بدأ يتخلق نسبياً في المغرب مع جلوس (محمد السادس) على العرش، وحسم (سنوات الرصاص) بالحوار.
***
إذا أطبقت شفتيك تماماً فأنت مغربي.. عدا ما استنزفه (القات) من طراوة وجهك، لا يوجد في ملامحك ما يشوش على هذا التخمين، في عيون من تخالطهم.. أنت مغربي صحراوي حتى تدينك ثرثرتك. حين يتأكد كونك يمنياً، ستسمع مراراً عبارة (أنا من بني هلال..) على لسان أكثر من شخص، يلفظها مشفوعة بزهو صادق، إزاء اليمن كمنبع قدم منه أسلافه، بحسب إحدى الروايات، والمكان الذي يحمل اسم (بني هلال) إلى اليوم، في بعض نواحي المغرب.
خلافاً لأكثرية المجتمعات في المشرق العربي، يبحث إنسان المغرب عن أوجه الشبه بينك وبينه. ليس لديه مواقف مسبقة من أي كان، وهو يحتفظ بنعوت طيبة لبلد كل زائر. لا علاقة للأمر بـ(الفهلوة، وتلقيح الجثث) التي يتقنها بعض العرب، حد السماجة وإثارة القرف، فالمغربي يكبلك بحبال الود على نحو - تستطيع - ولا ترغب في الفكاك منها، ويكسب معك ولا يتلذذ بالتفوق عليك، ويأسرك ولا يتشبث بك، ويطري ولا يتملق، ويخفض الجناح دون أن يفقد الوقار والندية.
يلازمك شعور بأن محفظتك لا تزال عامرة، حتى بعد أن تغدو خاوية على عروشها. من الصعب أن تتسكع في الأسواق المغربية - لاسيما الشعبية منها - بهدف الفـُرجة فحسب، إذ من الصعب أن تنجو من رغبة جامحة في شراء أي شيء بكل شيء.. مع ذلك ليس صائباً ولا حكيماً تفويت زيارة أسواقها بذريعة خلو اليد، فالتسكع لوجه التسكع يثري الخيال بما يهوِّن حسرة عدم الاقتناء.. إذ يمنحك التجوال في المكان أكثر بكثير مما تمنحك الأوراق المالية.
يتعين عليك - فحسب - أن تستسلم لدفء الأقواس الحجرية إذ تمرق فوقك، والممرات المرصوفة والمتفرعة وهي تحملك برفق إلى فسحة الأبهاء، والمفاجآت التي تختبئ لك نهاية كل زقاق.. أجزم أنك ستقاسمني الإحساس ذاته بالامتنان والثراء، أو سيكون عليك زيارة طبيب!
***
إن الخارطة وشاشات التـلـفـزة ليست دليلاً جيداً إلى الأمكنة.. وشخصياً فإنني أتوجس كثيراً إزاء البلد الذي تقدمه برامج الترويج السياحي على طبق سحري، وتنصحك بالتهامه. لو امتلكت ثروة توازي هوسي بالتجوال، لطرت في الاتجاه المعاكس للبلدان المدوية، حيث لا تسد مجسمات الدعاية منافذ الدخول العفوي، ولا يحول الصخب بينك وبين أن تشكل تصوُّراتك الخاصة، أو تصغي لإيقاع الحياة الخفي، الذي تعجز اللاقطات السمعية عن الإمساك به. وحدها المدن الشائخة والمترهلة تستهلك حصة أكبر من المساحيق. بذكورية مقيتة يوحد خطاب الترويج بين المدينة والمرأة: كلاهما محض جسد، وكلاهما - في تقييمه - يتشاطران وظيفة واحدة هي الإمتاع.. كنتيجة لهذا الانحراف الوظيفي، الذي يهدر كل قيمة إنسانية وطبيعية متجددة، تفقد (الحالتان) تدريجياً القدرة على الاستقطاب والجذب، وتنتعش أكثر فأكثر صناعة المساحيق.
في الوضع الطبيعي، تصبح المدن محط استقطاب ومراكز جذب، بفعل نسيج كثيف ومتضافر من العوامل التي تدفع بها إلى سطح المشهد، وتفرض حضورها بقوة على أكثر من مستوى. مثل هذه المدن لا تلجأ في تحصيل دخلها إلى التعري وعرض رأسمالها البيولوجي، كقيمة وحيدة. إنها منظومة حضارية متكاملة لا قيمة فيها لنسق دون آخر.. ليست حالة تاريخية محنـَّـطة، ولا محطة عابرة للاستجمام والوجبات السريعة.
تشبه الدعاية السياحية - بصورتها الراهنة - مشنقة بحلقتين طرفاها بلد ثري غير منتج، من جهة، وبلد فقير غير منتج أيضاً، من جهة مقابلة.
حالياً لا يبحث أثرياء العرب - في المحيط القومي الواسع - عن تربة يتكاملون معها ويستوفون نواقص بلدانهم، بل عن تربة يدفنون فيها نقائصهم، لذا فإن الجغرافيا تتحول إما إلى شاليهات أو أقبية للفضيلة المتوحشة، والشعوب إما إلى (جارسونات)، أو مشاجب عمياء للأحزمة الناسفة!
في سوريا عجزت عن أن أكون سائحاً، وفي المغرب، عشت العجز ذاته، فالسائح ـ بطبيعة الحال - كائن أناني عابر، لا ترى عويناته في بلد الوجهة، سوى بُعد وحيد وغير إنساني في الغالب! إنه كالذباب يتجاوز الأجزاء المتعافية، ويحط على الجرح..
أن تكون سائحاً يعني أن تكون مصفحاً إزاء عرق ونزيف وكفاح الناس من أجل حياة بلا استغلال ونهوض كريم.. أن تكون مصفحاً إزاء مجتمع يشاطرك مجابهة التحديات ذاتها.. وألا تتورط في صراع أنت أحد أطرافه..
كما في سوريا، ستجد نفسك في المغرب مرغماً على أن تردد مع نزار قباني: (أنا يا صديقةُ متعب بعروبتي)، مع مراعاة ألا تستفز أمازيغياً بهويتك المتعبة.. أصلاً.
***
نفط المغربي فوق رأسه لا تحت أقدامه. من السحاب السخي يرضع اقتصاد الدولة بدرجة رئيسة، عوامل قوته، ما يجعل الماء بمثابة النفط، وتمثل الزراعة - أو الفلاحة حد اصطلاحهم - النشاط الأول للسكان؛ وبالنظر إلى سواحل تمتد لأكثر من 3500 كيلومتر على المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، فإن النشاطات البحرية تمثل رهاناً موازياً للزراعة في تغذية الاقتصاد، ويبدو المغرب من الشرق إلى الغرب - بطبيعة الحال - ميناء كبيراً ممتداً، لا تكاد الأمواج تفارق ترابه.
يثق المغربي بقدراته كثيراً، ويغمغم بحسرة: (لو رزقنا نفطاً لقلبنا الموازين..)، في إشارة إلى الجزائر التي يسود اعتقاد لدى بعض المغاربة - بفعل علاقة جوار متوترة - بأنها لم تنتفع من نفطها كما يجب.. لكن من يضمن أن يغدو وضع المملكة أحسن حالاً، وألا تقع في مصير مشابه، لو امتـلكت نفطاً؟!
خلال العقد الفائت ظل المغرب يعاني من مستويات فقر وبطالة مرتفعة، فحسب إحصاء العام 96م، كانت نسبة 46% من السكان البالغ تعدادهم 34 مليون نسمة، تعيش على عتبة الفقر، فيما يشير معدل دخل 30% منهم، إلى 10 دراهم في اليوم، أي ما يربو بقليل على دولار واحد..، كما أن 80% محرومون من التغطية الاجتماعية، وارتفعت هذه النسبة لتصل في البوادي إلى 97%.
وعلى مستوى التعليم، فإن نسبة الأمية في أوساط نساء المدن 65%، وفي البادية 89%، بينما لم يلتحق 54% من الأطفال الذكور بالمدرسة و87% من الإناث، رغم بلوغ سن الالتحاق.. وفي المجال الصحي تشير الإحصائية الرسمية إلى 7-8 وفيات يومية بفعل مضاعفات الحمل.
خلف هذه المتوالية الرقمية المرعبة يبرز متهم آخر سوى إمكانات الجغرافيا.
تعرِّف إحدى العبارات الشهيرة السياسة، بأنها خطاب اقتصادي مكثف، ولدى (أمارتيا صن) فإن التنمية هي حرية، إذ يزدهر طرفا العلاقة معاً أو ينتكسان معاً، ويمثل كل منهما رافعة للآخر، وفي الحالة المغربية - كما في الجزائرية، والعربية عموماً - فإن اضطراب العلاقة بين السياسة والاقتصاد، عكس نفسه سلباً على نمو المجتمع بصورة سلسة.. غير أنه ما إن انتقلت مقاليد الملك إلى (محمد السادس) كانت الظروف قد اختمرت، حد أن يجعل الملك من الحوار مفتتحاً - لا غنى عنه - لعهده..
أصبحت المعتقلات المكتظة، خالية من النزلاء تقريباً.. فـُـتحت الملفات المحظورة (عرقية وجهوية)، ونشطت المكونات السياسية في العلن، ورغم تحفظات فرقاء يرون في التطورات الأخيرة حالة استتباب هش، ولا ترقى لسقف التغيير المطلوب، فإن هذا الاستتباب النسبي قد أتاح للاقتصاد المغربي أن يتنفس، ويبحث بروية عن مصادر دخل عبر تفعيل قطاعات عطلتها (سنوات الرصاص). يذهب مراقبون أبعد من ذلك، فنحن - برأيهم - إزاء مغرب جديد مرشح لأن يكون أنموذجاً (للعدالة الانتقالية) والتحول السياسي الذي يفتح أفقاً رحباً لانتعاش الاقتصاد، في ظل (فضاء مدني غير مسبوق) على مستوى المنطقة.
نتيجة للسياق الآنف، التحق المغرب، في مارس الفائت، كعضو كامل العضوية بالسوق الأوروبية المشتركة، بعد أن كان عضواً مراقباً..
إن رساميل استثمارية تتقاطر- اليوم - بوتيرة متنامية إلى المملكة، وكالحال لدى معظم دول المنطقة، فإن هذا الدفق المالي يـُسـتـفـرغ في قطاعات خدمية غير إنتاجية، ولا يحقق النتائج المرجوة منه، كامتصاص البطالة، في الغالب. إنه على العكس يغذي احتمالات ارتفاعها، إذ يضر بالشرائح المنتجة، عوضاً عن حفزها، ويبقي على ميزان القوى العاملة، عرضة للتقلبات والخضات المستمرة. بالنسبة لبلد زراعي، فإن الأمر لا يخلو من ردات فعل كارثية، أقوى من قدرة الدولة على احتواء تعبيراتها أو مواكبتها حتى!
نظرياً يفترض أن هذه الأجواء المفتوحة نفسها، إذ تحمل إمكانات ضرر، فإنها تحمل إمكانات مواجهته..
في محاولة مثابرة لاستثمار هذه المفارقة، ينشط عدد من منظمات المجتمع المدني ذات الميول اليسارية، على بلورة رؤى عابرة للقطر تنتظم نضالات الشرائح الاجتماعية في مناهضة مساوئ السوق الحرة وسياسات الإقراض، ومضاعفات النشاط الصناعي المدمرة للبيئة والنوع وفرص الحياة الآمنة.. ويركز هذا التوجه على الإجراءات والقوانين غير الإنسانية التي تتعامل بها البلدان الغنية مع فلول المهاجرين الفارين من شبح الفقر المحلي وجحيم أوضاع تسهم مقامرات الدول الكبرى، في نشوبها على نحو مباشر أو غير مباشر، كما يرى في (الصهيونية العالمية) واحداً من أوضح التعبيرات العنصرية والنازية لرأسمالية القطب الواحد.
إن شعلة الحلم بعدالة اجتماعية لا تزال متقدة، في أيدي قطاع عريض من النخبة المغربية، فهل سينجحون في أن يقطعوا بها حواجز الطائفة والعرق والقطر والسجالات السياسية اليومية، نحو عالم بديل.. عالم آخر ممكن؟!
***
يروق لي التسخين الذي يجهد به المغربي حباله الصوتية، لتبدو نبرته مفهومة للغير، والزلات اللغوية المتفلتة أثناء محاولته عبور المسافة بين الدارجة والفصحى.
ليست لهجته ملغزة إلى هذا الحد. لكنه يُـحسن الظن كثيراً في لهجات من يعتقد أنهم قادمون من مضارب (بكر وتغلب) والمعلقات العشر، حد إساءة الظن في لهجته، وإلى درجة تبدو معها الأحاديث المتبادلة كما لو أنها (بروفات أولية) لمسلسل تاريخي من مسلسلات  (نجدت أنزور أو حاتم علي).. (إنها الحرب إذن).
من النادر أن يتلطف معك عرب المشرق على هذا النحو. في بوادي النفط والنوق، يتنازل الواحد عن لهجته للبنغالي والهندي تماماً، ويرفع مستوى حدَّتها في وجه عرب الجوار.. أما المصريون فلا تساورهم ذرة شك في أن لهجتهم هي لهجة أهل الجنة.. (إن بعد الزَّن إسم).. بينما تطفح لهجة السوريين بذكورة مفرطة، لتؤكد فحولتها!
على حين غرة، ستقرع طبلة أذنك مفردات شائعة في قريتك اليمنية النائية، يتداولها المغاربة.. ورغم أنك تشاطرهم الفعل (يَعـفي) ذاته للدلالة على (الغليان والفوران)، فإن من غير اللياقة أن تدعو بالعافية لمغربي، إذ ليست (العافية) لديهم سوى الجحيم!
هل يتذكر أحدكم النكتة التي تحكي أن زعيماً عربياً نزل ضيفاً على اليمن، وعندما انتهى من تناول وجبة الغداء، واستدار لينصرف، لفت أحدهم نظره إلى أن (بنت الصحن) لم تصل بعد، فرد بامتنان (حين تصل رافقوها إلى جناح إقامتي). لقد أوقعه اسم الحلوى اليمنية الشهيرة، في اللبس، وفتح شهيته على الآخر!
في المغرب قد يتورط من يفتقر إلى (تحسيس - توعية) بعادات البلد، في موقف مماثل. لذا فإن من المهم أن تدرك منذ اللحظة أن (الكُسكس) ليس إلا واحد من أشهر وأشهى الأطباق هناك..
إن شركات الطيران تعفي من رسوم الشحن في العادة ما يتراوح بين 20 و25 كيلوجراماً حمولة شخصية، غير أنك ستعود محملاً بالكثير مما يستعصي وزنه..
إنها أشياء لا تشترى، وإنما ترشفها المسامات الحساسة، والمغرب مترع بها.
فقط عليك أن تستسلم لحفيف ريشات الحمام في ساحات (كازابلانكا) وهي تسرِّح مشاعرك المشعثة، وتـنـقر مثـل عازف بيانو محترف، نوافذ قلبك...
فقط عليك أن تصغي بالتذاذ، لجلبة وقارك وهو يتهشم على أرصفة الطرقات فيما أنت تسابق ظلك اللاهث مثل طفل لا يأبه!

أترك تعليقاً

التعليقات