رئيس التحرير - صلاح الدكاك

تقوم النظريات الاستعمارية بالعموم على رافعة الإعلاء من جنس المستعمر والحط من جنس الشعوب والبلدان المستهدفة بالاستعمار، فالمستعمر هو طرف قادر متفوق متقدم متحضر إلى الأبد، بينما الشعوب المستعمرة هي طرف عاجز حيال تحدي تحصيل حاجيات وجوده متخلف بدائي إلى الأبد، وترتيباً عليه لا مناص من أن تقع اللاقيمة المطلقة لهذا الأخير تحت وصاية القيمة المطلقة للطرف الأول، بل إن الاستعمار - وفق هذا النسق المفاهيمي - يغدو عملاً إنسانياً نبيلاً تنهض به الدول المتقدمة (أوروبا البرجوازية في طور الثورة الصناعية)، تجاه البلدان المتخلفة (شعوب أمريكا اللاتينية والشرق العربي وأفريقيا في التاريخين الوسيط والحديث)، باعتبار هذه الشعوب غير مستأمنة على ثرواتها وطاقاتها الطبيعية والبشرية، وبمعنى آخر غير جديرة بها وبإدارتها، ويتعين أن توضع تحت (الانتداب المباشر)، وتؤول للمستعمر باستحقاق جدارته الحضارية في تثمين الثروات الخبيئة والمنظورة، وتوظيفها على (النحو الأمثل).
أخطر من كل ذلك أن تبخيس القيمة الإنسانية لشعوب جنوب الكرة الأرضية والشرق العربي تحديداً، ظلت راسخة في أذهان هذه الشعوب وفي تصوراتها لنفسها حتى عقب انقضاء الحقبة الاستعمارية، فحيث لم تعد الأدبيات الأوروبية المعاصرة - نظرياً - تنطوي على الحط من قدر الآخر الشرقي وتبخيسه، بات الشرقي ذاته يرى في نفسه بخساً وأحط قدراً.
منذ ظهور السوق لأول مرة كعلاقة حضرية معقدة وحتى اللحظة، كانت السلعة معلومة القيمة، لكن الذي ظل مجهول القيمة هو الإنسان، وكان النضال والكدح البشري من حيث الجوهر يستهدف تثمين الإنسان، والشعوب التي أدركت هذا المغزى النبيل للنضال، وقربت القرابين على مذبحه، هي التي أمكن لها لاحقاً تطويع السلعة المادية لربوبيتها بحثاً وإنتاجاً وكشفاً، على النقيض لشعوب وقعت في ربوبية السلعة، لأنها بخست القيمة الجوهرية لإنسانها، ولم تكدح في سبيل تخليصها من أكبال الرق والقهر والهوان، استعظاماً لكلفة ذلك عليها، وركوناً لفكرة عجزها عن أن تكون أكثر مما هي كائنة.
إن الشعوب الحرة - بطبيعة الحال - ليست تلك التي منحها المستعمرون صكوك الاستقلال، وبات لها أعلامها ومسمياتها الجيوسياسية الخاصة بها، وإنما هي الشعوب التي نجحت بالكدح في تأويل وجودها خارج أسوار الرواية الاستعمارية مشروعاً ومساراً وبوصلة وغاية ووسائط.
هذه هي معركتنا اليوم كيمنيين، معركة لتحرير الذات الإنسانية واكتشافها وتثمينها خارج الرواية الاستعمارية المهيمنة على الفضاء الروحي والفضاء المادي وعلى المسجد والخمارة والسوق والبرلمان والدين واللادين والوطن والمنفى واليسار واليمين وإشارات المرور والمقررات المدرسية والواعظ وأستاذ علم التشريح.. معركة نحارب خلالها عدواً هو فينا ومن حولنا قبل أن يكون في الضفة الأخرى من خندق الاشتباك العسكري؛ وكلما اشتد أوارها تفسخت جلود غير الجديرين ببلوغ الغاية السامية منها، فنكصوا، وغَلُظت جلود الجديرين بها، وكلما تعاظمت نارها تكشَّفت مساحات العتمة، وتمظهرت للعيان خبايا النفوس التواقة المتقدة بالتطلعات، والناكصة المنطفئة المكتنزة بالحسابات الوضيعة المتربصة.
ولأنها معركة استرداد الذات الإنسانية كاملة القيمة من أنياب الرواية الاستعمارية، فإن من الطبيعي أن تسلبنا قوى الاستعمار خلالها كل سلعة مستعارة كنا نثمن بها وجودنا، وأن تحظر علينا كل مضمار كنا نسرح فيه أقداماً بلا رؤوس، وألا يظلَّ في حوزتنا إلا أظافرنا وكل ما هو أصيل لم نكتسبه بالمقايضة على الذات.
هكذا يتخلَّق اليمنيُّ اليوم من رحمٍ عصاميٍّ لم تطمثه أحبار الاستشراق ولا روث إسلام البترودولار وحيضات مكائن التنقيب البريطانية ـ الأمريكية، نقياً من خليط الأفضال والمنن ولَبْس الجذور.
وهل بوسع أمة من الأمم أن تتلافى إثارة حفيظة النخاسة الكونية والاستكبار العالمي، حين تطمح لأن تكون ذاتها الكاملة وغير المثلومة؟!
إن قوى الاستكبار الكوني تنفق في العدوان علينا أثمن المال والعتاد والخبرات والأفكار، لأننا انتزعنا بأظافرنا المجردة ذاتنا وكينونتنا وقرارنا، وهو ثالوث الوجود الوازن الأثمن من كل المال والعتاد والخبرات والأفكار، بوصفه مُنتِجاً لها، ولا قيمة لأي من هذه المخرجات المادية في غياب مركزية الوجود الإنساني الحر الفاعل المستقل.
فليترجل ـ إذن ـ عن صهوة اللحظة الوطنية الشريفة كل من أتعبتهم الرحلة، ولينسحب من خندق الطموح الفذ كل من لا يقوى ولا يجرؤ على أن ينظر أبعد من قدميه؛ ولا تتعدى صلته بالوطن شباك أمين الصندوق.
تذليل
يا كل شوطٍ تطاول لن نقول متى
ننهي؟! ولكن قطعنا منك أمتارا
تمتد نمتدُّ نُصبي كل رابيةٍ
وندخل المنحنى والسفح أفكارا
عبدالله البردوني

أترك تعليقاً

التعليقات

عادل سمارة
  • الأثنين , 15 مـايـو , 2017 الساعة 10:24:38 AM

صباح الخير، جميل انت وجميل الراحل عبد الله البردوني. الغرب الراسمالي يقول (كيف حصل ان نفطنا وُجد في أرضهم).. هذا ليس الغرب، إنه بوضوح العدو. في ثقافتهم وتثقيفهم يقولون بأن على الشعوب المتخلفة لن تنتقل إن لم تعتنق ثقافتنا. وفي نفس الوقت يقولون ويُثقفون بأن هؤلاء المتخلفين لن يُتقنوا اعتناق ثقافتنا!!! والخطر منهم الطابور الخامس السياسي والطابور السادس الثقافي في أوساطنا من جهة ثانية.