رئيس التحرير - صلاح الدكاك

تخس (شرعية هادي) وتخسر وزنها بإيقاع متسارع، صوب لحظة وشيكة قادمة تفقد فيها قيمتها كلياً.. وكذريعة وورقة يتيمة ووحيدة لم يعد بين قوى تحالف العدوان من يضارب عليها سوى السعودية حصراً، فإن هذه (الشرعية) تبدو في يد الرياض المفتقرة لأوراق بديلة ميدانية وسياسية، أشبه بدمية من الثلج تحت لهب المستجدات اللافحة.
من منكم لا يزال يتذكر يافطات من قبيل (قادمون يا صنعاء) و(لابد من صنعاء) و(تحرير صنعاء مسألة أيام)؟! كل ذلك أصبح في عداد الماضي، وخفتت كلياً جلبة الحديث عن استعدادات عسكرية ضخمة لاجتياح صنعاء من بوابتها الشرقية (نهم)، لتحل محلها جلبة معارك الساحل الغربي، والحديث عن أزوف موعد اجتياح (الحديدة).
على أن انزياح مسار السيطرة على (العاصمة) لصالح مسار السيطرة على (الميناء) كهدف رئيس وذي أولوية لتحالف العدوان، لا يعني تحوُّلاً في استراتيجيا العدوان، بل في التكتيك، والمتغير اللافت الجدير بالتناول، والناجم عن إعادة الانتشار تلك، هو إعلان وفاة (الشرعية)، وسحب بساط القيمة التفاوضية بقسوة من تحت أقدام المملكة السعودية كمضارب وحيد عليها.
الوقود البشري لمعارك تحالف العدوان، في الساحل الغربي، جمعيه وقود جنوبي، باستثناء الأجانب والجنجويد، أما واجهة القيادة فـ(إماراتية)، ومن السذاجة اعتقاد أن هذه العمليات تستهدف إعادة (هادي) إلى كرسي الرئاسة، فالحديدة ليست العاصمة، والجنوبيون ينظرون إليه باعتباره عدواً، و(العاصمة المؤقتة عدن) بئر أفاعٍ فاغرة لابتلاعه، و(الإمارات) لا تضارب عليه ولا تنفق ملياراتها خاطر عيون الملك وابنه المهفوف.
وفيما تعتقد (الإمارات) بأنها الرابح الأكبر، ويتوهم مغفلو الحراك الجنوبي أنهم يشاطرونها الربح على طريق إعلان (الدولة الجنوبية المستقلة)، يمكن الجزم بأنه ما من رابح في مربع تحالف العدوان سوى المدير التنفيذي الأمريكي والبريطاني، مع تأكيد أن المملكة السعودية أكثر أدواته التنفيذية خسراناً، وأقلها قيمة تفاوضية، وأوفرها نصيباً من حصاد التبعات الارتدادية السلبية المباشرة للعدوان..
ما السعر الذي يمكن أن تحصل عليه السعودية من وراء دمية ثلجية باتت مجرد لتر ماء آسن وبلا ملامح؟!
حتى بالنسبة للرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، فإن (الشقيقة الكبرى) لم تعد وازنة بما يستدعي استمراره في الدعوة لمفاوضات ثنائية معها؛ وفي كلمة له، الخميس الفائت، أمام فعاليات مؤتمرية بصنعاء، قال إن (أمريكا وإسرائيل هما من تديران العدوان على اليمن)، وأما عربان الخليج فـ(مجرد لحقة)، حد تعبيره.
وعشية اليوم ذاته، رشحت جلسة لمجلس الأمن الدولي حول الملف اليمني، عن (دعم الانتقال السياسي الكامل في اليمن)، أي نضوج الموقف الدولي إزاء طي صفحة (الدنبوع هادي وأراجوزات الشرعية) بالكامل..
قد لا يعني ذلك انفراجة بالشروط الوطنية التي يحارب شرفاء اليمن شعباً وقيادة لتحقيقها، لكنه مؤشر على دخول الصراع طور (اللعب على المكشوف)، ودون أقنعة وذرائع من قبيل (دعم الشرعية وإنهاء الانقلاب) أو (استعادة اليمن من مخالب النفوذ الإيراني)؛ وفي هذا الطور من الصراع، فإن القيمة دولياً تبقى لأصحاب الأرض صموداً واستبسالاً في الدفاع عنها، مضافاً إليه ما بحوزتهم من أرصدة ألم ألحقوه بالعدو على مستوى الرد النوعي في عمق أراضيه أو الردع النوعي الذي يكبح تفوق عتاد العدو العسكري على مستوى الأرض براً وبحراً وجواً.
في هذا السياق، بوسعنا فهم خطاب سيد الثورة السيد عبدالملك الحوثي، في يوم الشهيد، وكلمة رئيس المؤتمر الشعبي الأخيرة، اللذين حفلا برسائل صريحة وكاشفة لحيازات القوة العسكرية المتوافرة لدى جيشنا ولجاننا، سواء منها المطورة أو التقليدية المكنوزة بمنأى عن حسبان العدو.
من يفاوض من؟ وحول ماذا؟
منذ بدء العدوان الأمريكي السعودي على اليمن، تعمدت دوائر أبحاث العدو ومنظومته الإعلامية، تجيير المتغير الثوري اليمني لجهة الاشتباك الناعم والحرب الباردة الدائرة بين الوكيل الإقليمي السعودي ـ الإماراتي من جهة وإيران من جهة مقابلة، وتبعاً لذلك جرى تغييب سياق المعطيات المادية والموضوعية التي انبثقت منها ثورة الـ21 من أيلول، والتبخيس من الحاضنة الاجتماعية الشعبية الواسعة لها، من خلال إسقاط إكليشة (الهلال الشيعي الإيراني) على الحالة اليمنية، واعتساف حقائق الواقع، والشروع في عدوان عسكري دولي على اليمن بدعوى استنقاذ الشعب اليمني من مخالب الغول الإيراني و(إعادة اليمن إلى حاضنتها العربية).
على أن فرضيات العدوان التي شن بموجبها حربه الإجرامية، تآكلت في غضون عامين من الصمود الشعبي اليمني جيشاً ولجاناً وقيادة وشارعاً، وشيئاً فشيئاً ينحو مسار المواجهة صوب (اللعب على المكشوف)، بحيث بات باب المحذورات (العربية التقليدية) مفتوحاً على مصراعيه أمام الكيان الصهيوني لولوج مسرح الاشتباك مباشرة ودون حرج، إلى جانب ما يسمَّى (محور عربي سني) يشاطر (تل أبيب) ذات المخاوف إزاء (الخطر الإيراني).
وإذا كان ثمة سابقاً من يمكن أن تنطلي عليه أكذوبة أن إيران (عدو) في الأوساط اليمنية المناهضة للعدوان، فإن صدمة الولوج الصهيوني المباشر إلى مسرح الاشتباك كحليف علني للسعودية والإمارات، جعلت هذه الفئة الضئيلة عدداً في الشارع الوطني، آيلة تماماً لتأييد تعاون يمني إيراني، على أن ترى في (إسرائيل صديقاً محباً للعرب والمسلمين).
لقد برهن الشعب والمقاتل اليمنيين، إبان عامي الصمود الخارق لحسابات موازين القوى المادية التقليدية، على عصامية القرار اليمني المناهض للعدوان، وصار حتماً على الأطراف المعتدية (العربية مجازاً)، التفاوض مع (صنعاء) بوصفها صاحبة الحل والعقد، فيما لو أرادت هذه الأطراف الخلاص من مآزقها الناجمة عن فشل عدوانها، والخروج بـ(ماء الوجه)..
وثمة بديلان آخران عن التفاوض مع صنعاء؛ أحدهما الكذب على النفس وتصديق فرضية (التبعية اليمنية لإيران) و.. الذهاب للتفاوض مع (طهران) و... العودة بخفي حنين، فلا جنوب المملكة سينعم بالاستقرار، ولا (الرياض) ستأمن غوائل الضربات الباليستية ولا (أبوظبي) ستبقى بمنأى عن طائلتها.
أما البديل الآخر فهو بروز (إسرائيل) علناً إلى واجهة الصراع كحليف لقوى العدوان على اليمن، وهو الخيار الذي تجد الكيانات الوظيفية العربية نفسها مشدودة إليه بالقصور الذاتي، وبفعل عجزها الوجودي عن النط فوق سياج نشأتها الاستعمارية ومقاربة مصالحها باستقلال وعصامية دون أن تذوي وتموت.. على ضفة الاشتباك العسكري في اليمن اليوم، تتمظهر حقيقة الصراع دون مواربة، فمحور يمني ينطلق من ثوابت فطرية وطنية دينية قومية إنسانية أممية في الدفاع عن وجوده بالأصالة عن أرضه وعرضه وجذوره التاريخية وحقه المشروع في الحرية والاستقلال، متسقاً مع ذاته ومصالحه المعلومة وقضاياه المركزية؛ ومحور نقيض تتكتل فيه قوى الوكالة المحلية والإقليمية المترنحة في المنطقة العربية، على ضفة المدير التنفيذي الأمريكي البريطاني، وتخوض حروبها بالإنابة عن مصالحه بوصفه الأصيل.
هكذا يترقى المحور الأول المدافع عن وجوده ومصالحه بالأصالة عن نفسه، من فضاء اصطفاف وطني مشترك قوامه المكونات الاجتماعية والسياسية الشريفة الملتحمة بآمال وآلام شعبها، إلى فضاء اصطفاف إقليمي أممي قوامه كل القوى والشعوب المستضعفة والمقصية والمستهدفة بالتعبيد والهيمنة، والتواقة لحياة كريمة خارج أقفاص الوصاية والاستغلال. وبالنتيجة فإن فضاءات الاصطفاف تلك في أطوار ترقيها من المحلي إلى الأممي، تتناسج على قاعدة الندية وتعاضد نظراء التحديات والطموحات، على النقيض من المحور المدافع بالوكالة عن مصالح آمريه التنفيذيين الدوليين غير المشروعة، والذي يتقاطع إقليمياً ودولياً مع مشغليه بالتبعية، مراهناً في استمرار وجوده على استمرار كفاءته الوظيفية في تدعيم وجودهم.
لا يسمح الأمريكي بأن تفاوض كل أداة تنفيذية منخرطة في العدوان، على حدة، بالأصالة عن ورطتها. كما أن هذه الأدوات غير مخوّلة بتقديم التنازلات الكفيلة بخروجها من الورطة، وتمثل تفاهمات الـ10 من أبريل 2016 المنهارة بين (الرياض) و(أنصار الله)، تجسيداً عملياً لانتفاء القدرة على الحل والعقد لدى الكيان السعودي، في مقابل توافر يد (الأنصار) على شتى الخيارات الحرة والمسؤولة والإرادة كاملة.
إن زخم الصمود وبسالة المواجهة اليمنية المتنامي، والذي تعد معارك الساحل الغربي الفيصل الأبرز والأكثر حساسية لجهة تثمينه، هو من سيقرر المفاوضات الحتمية المقبلة ومع من؟! على أن المؤكد أنها لن تكون كسابقاتها مفاوضات بين أصيل ووكيل، بل بين أصلاء!
تأسيساً عليه، فإن طاولة الوسطاء الإقليميين والدوليين ستتسع تبعاً لمآلات معترك الساحل التي عقد الأمريكي والبريطاني لواءها للإمارات نظرياً، وزج بمغفلي الحراك الجنوبي في أتونها بخطام العشم الأخرق في (استعادة دولة الجنوب) المتوهمة، بقصد تخويض بركة الصراع تلافياً للقبول قسراً بمخرجات تحالف أدواته المخيبة لآماله، بعد عامين من العدوان.
لن يكون بوسع قوى العدوان أن تقرر ما تشاء بشأن جنوب اليمن أو شماله ما دامت قواتنا البحرية والصاروخية مستمرة في مزاولة صيد البارجات ورؤوس القادة الكبار من غزاة ومرتزقة.
كما أن (مسارات تفعيل وبناء وتطوير دفاعاتنا الجوية) - حد تعبير سيد الثورة - بدأت تطرح ثمارها بـ(الفعل لا بالقول)، وها هي أسطورة سلاح الجو الأمريكي تترنح وتهوي بضربة سديدة من دفاعاتنا في (نجران).

العدو في مواجهة ما يخشاه
قدَّرت الإدارة الأمريكية أن تفضي الحرب على اليمن إلى طغيان نفوذ (محور الاعتدال - الانبطاح)، بإيجاد مضمار عملي هو اليمن يزاول عليه مشروعه (العربي السني) المنفتح على الكيان الصهيوني، وتفاجأ بعد عامين بالضد من تقديراته، وبات (مجلس التعاون الخليجي) المتصدع منفسحاً بفعل المخاوف المصيرية (العمانية - الكويتية) من صبيانية بني سعود، لنشاط إيراني ينبئ بنشوء تحالفات مقبلة غير مرغوبة في عقر المناطق الحيوية للولايات المتحدة.
كما أن (الصين وروسيا) لا تقفان بعيداً عن تطورات الاشتباك في اليمن، ولا سيما شقه البحري، وعلى الأرجح فإننا سنصادفهما طرفاً ضامناً على طاولة مفاوضات قادمة.
في غمرة ذلك، يتعين على القيادة الوطنية الثورية والسياسية أن تراكم مستوى مائزاً من رصيد سياسي يؤهلها للحضور كرقم وازن، وهذا مرهون بسيرورة المعركة على الأرض.

أترك تعليقاً

التعليقات