المفجر..!
 

ابراهيم الوشلي

إبراهيم يحيى / لا ميديا -
كانت له هيبة ومكانة خاصة بين معارفه وزملائه، ولم يكن أحد يستطيع أن يقلل من شأنه ومنزلته، فالرجل يعتبر كبير المهندسين في شركة الهدم المعروفة التي يعمل لديها.
بعد إجراء حسابات ومعادلات رياضية معقدة؛ كان يوزع المتفجرات في زوايا المبنى المراد هدمه بدقة متناهية، وبضغطة زر واحدة يتحول المبنى إلى غبار وينهد بطريقة مذهلة دون أن يمس أي بناية مجاورة، ليصفق الجميع شهادة وتقديراً لصاحب هذا الإبداع.
وإلى جانب عبقريته وكفاءته، كان هذا المهندس منضبطاً لدرجة عجيبة.
حتى في عيد ميلاد ابنته الوحيدة ترك البيت وذهب لأداء عمله، رغم محاولات زوجته الكثيرة لإقناعه بالبقاء والاحتفال معهم...
أنهى الرجل عمله بإبداعه المعتاد، ثم أخرج هاتفه واتصل بزوجته ليخبرها بأنه في طريقه لشراء كعكة عيد الميلاد والعودة إلى البيت للاحتفال.
ركن صديقنا سيارته على مقربة من محل الحلويات، ودخل لاختيار الكعكة التي سيُفرِح بها قلب ابنته، لكنه عندما خرج من المحل بعد دقائق معدودة لم يجد سيارته، فقد اختفت فجأة، ليتضح له بعدها أن الرافعة التابعة لشرطة المرور قد سحبتها لاحتجازها.
العجيب أنه لم ير أي لافتة تمنع الوقوف في المكان، وكان قد ركن سيارته بطريقة قانونية دون أي مخالفة..!
ذهب هو والكعكة إلى مكان الاحتجاز، وحاول أن يشرح للموظف المختص أنه لم يكن هناك أي لافتة تمنع الوقوف، وبلغة لطيفة ومؤدبة طالب بالإفراج عن سيارته دون أن يدفع فلساً، وأن يدفعوا له تعويضاً عن خسارته، وهذا حقه الطبيعي.
رغم أسلوبه اللطيف في الحديث، إلا أن الموظف تجاهله بطريقة مستفزة، ورفض أن يسمح له بالحديث مع المسؤول هناك، فوجد نفسه مجبراً على دفع الغرامة ليخرج سيارته.
بالتأكيد تأخر في الوصول إلى البيت وفوت الاحتفال، وزوجته المتذمرة أسمعته كل الكلام السيئ والجارح، ورفضت أن تسمعه كما فعل ذلك الموظف.
صديقنا لم يفقد الأمل ولا يريد أن يتنازل عن حقه، ذهب في اليوم التالي إلى مقر الاستقبال في إدارة المرور، وحاول أن يقدم شكوى ويسترجع حقه، وشرح الأمر بكل أدب ولياقة.
إلا أن هذا الموظف كان أسوأ من زميله السابق، واستفزه بتجاهله واستدعاء الأمن لطرده، فانفعل الرجل لا إرادياً وأخذ طفاية الحريق ليكسر الزجاج.
طبعاً تم اعتقاله ورميه في السجن، قبل أن يخرجه أحد أصدقائه بكفالة.
وهنا خرج من السجن ليتفاجأ بنفسه عاطلاً عن العمل، فالخبر انتشر في الجرائد مع “البهارات” طبعاً، والشركة التي يعمل فيها قد استغنت عنه خوفاً على سمعتها.
تدمرت حياته، زوجته طلبت الطلاق كونه لا يملك وظيفة وحرمته من حضانة ابنته، ولم تقبل بتوظيفه أي شركة أخرى.
فقد عائلته، وفقد مصدر رزقه، واحترام الناس، فقد كل شيء له معنى في حياته.
ذلك المهندس المحترم تدمرت نفسيته بشكل كارثي، وبات كالمشردين شكلاً وعقلاً.
حاول كثيراً أن يحصل على أي وظيفة، لكنه كان يُرفض بشكل غير لائق في كل مرة، وفي نهاية الأمر ركب سيارته وركنها متعمداً في مكان ممنوع، وانتظر بكل هدوء حتى جاءت الرافعة لسحبها.
انتظر حتى وصلت السيارة إلى حوش الاحتجاز وابتعد الجميع عنها، وفجرها مع الحوش والسيارات التي بجانبها، نعم كان قد فخخها قبل أن يركنها.
طبعاً تم زجه في السجن، لكنه كان راضياً ومطمئناً بعض الشيء، واشتهر بين السجناء باسم “المفجر”، للأسف تحول المهندس المحترم إلى مفجر.
هذه الحكاية خلاصة فيلم أرجنتيني قصير شاهدته مؤخراً، الفيلم يصور بطريقة مذهلة كيف تصنع الدولة “مجرمين”.
كيف تعمل الدولة بمشاركة الإعلام والمجتمع السلبي على تحويل الأفراد من شرفاء وفاعلين وكفاءات وذوي قيمة عالية للمجتمع نفسه، إلى أشخاص مجرمين، إما أن يضروا المجتمع أو يقبعوا خلف القضبان.
ما يؤلمني أن هذه الحكاية واقعية، وتتكرر بسيناريوهات مختلفة عندنا وعند غيرنا من الدول، لذلك أتمنى أن يصل هذا الكلام إلى دولتنا الموقرة، فربما تتغير قليلاً.

أترك تعليقاً

التعليقات