الروائح الطيبة
 

ابراهيم الوشلي

إبراهيم الوشلي / لا ميديا -

كل شيء له لغة ينطق ويتكلم ويتحدث بها، ويثبت بها نظريات ويفند أخرى، حتى الروائح لها لغتها الخاصة، وقد قال الشاعر في مشهد داخل دكان العطار: واللهِ رائحةٌ لها لغةٌ ستفهمها إذا أصغيت.
أي أن المطلوب هو إصغاؤنا فقط، فكل شيء جميل يُعرف برائحته التي تتحدث نيابة عنه، العبق والطِّيب على سبيل المثال متحدث رسمي عن الورد، يشرح للإنسان قيمته الغالية.
في بعض الأحيان تتسلل إلى أنفك رائحة بخور ليست كبقية الروائح، تأسرك وتفقدك وعيك في أول ثانية، وهذه الرائحة تقول لك بصريح العبارة: إن هذا البخور الذي شممته غالي الثمن، لأنني أفوح منه.
الرائحة هي السر الكوني العظيم الذي يجعل الشيء لا يقدر بثمن.
وفي هذا المقام الجليل، كم أود الإشارة إلى أن الشهداء هم أكثر من يخلفون وراءهم طِيباً وعبقا، فإن كان لك شهيد ستجد رائحته الطيبة المقدسة حيثما وليت وجهك.
يتركونها في البيوت، في المجالس، في المتاريس، في أسلحتهم ومقتنياتهم الشخصية، على ظهر الأطقم العسكرية.
حتى استمارات بياناتهم الجهادية.. لا تقل قداسة عن مجالسهم ومتاريسهم.
حديثي عن عظيم كان عروجه إلى السماء قبل عام، أي أننا في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاده، ولم يزل عبيره يفوح في الأرجاء طرياً حديثاً كأنه وليد اليوم، وما أطيب شذاك وعِطرك يا رفيق الأنبياء.
اسمه في بطاقة الهوية «أحمد خالد الجودي»، أما كنيته الجهادية التي اختارها وكنا نناديه بها «أبو طالب»، وهو الأوسط بين أخويه، إبراهيم ومحمد.
كان مركز شرطة «22 مايو» مسكناً لنا لعدة أشهر، أنا وأبو طالب وشقيقه محمد «أبو حسن» وقريبهما الشهيد عصام علوي «أبو الكرار»، وبعض الرفاق الذين لا يسمح المجال بذكرهم.
في ساعة المقيل كان «أبو طالب» لا يسمح لأحد بالجلوس إلى جانبه سواي، وإذا خرجنا في مهمة وتولى قيادة الطقم كان دائماً يحجز مكاني في الكرسي المجاور له، لدرجة أنني كنت أجلس مجبوراً في بعض الأحيان، فلا مجال للاختيار أمام عناد هذا الطاهر.
إذا كنت تقرأ هذه الكلمات فأنا أقسم لك بحياتي إنني لا أستطيع أن أتذكر لحظة واحدة قابلني فيها بوجه عابس، ربما لأن ابتسامته الساحرة محت كل اللحظات الأخرى، أو أن وجهه لم يعرف العبوس فعلاً، لقد اختلطت عليَّ الأمور.
وكان لا يحب أن يبتسم لوحده، إذ يكفي أن ينظر إليك بعينيه لتبتسم، وإذا تكلم ضحكتَ تلقائياً، ولو كان كلاماً بلا بمعنى، إنها هالة من اللطافة كانت ترافقه أينما ذهب.
نصف هذا الشاب كان مكتظاً بالحياة، بالتفاؤل، بالجمال، بالحب، بالوئام، بالود.
ونصفه الآخر كان مكتظاً بالجهاد، بالإيمان، بالنشاط، بالحركة، بالعطاء، بالتضحية.
بعد أن رابطنا معاً لبضعة أشهر، شاءت الأقدار أن ينتقل كل واحد منا إلى مكان آخر، فكانت الخطوط الأمامية مأواه وملجأه، هو وأبو الكرار عليه السلام، بيد أن كلاً منهما له جبهته المختلفة.
انقطع التواصل بيننا لفترة طويلة، التحق خلالها أبو الكرار بركب الخالدين أثناء تنكيله بالأعداء في جبهة صرواح، وجرح «أبو طالب» بشظايا قذيفة شيطانية في جبهة نهم، وما إن تعافى حتى انطلق بشوقٍ إلى ساح الوغى، ثم مضت شهور طويلة، حتى أخبرتني أمي هاتفياً أننا سننتقل إلى العمارة التي تسكن فيها عائلة صديقي «أبو طالب»، فقد كانت هي الأخرى صديقة لوالدته أطال الله في عمريهما.
خرجت من المكان الذي أرابط فيه بغرض المساعدة في نقل أثاث البيت، وعندما تم كل شيء، سارعت فرحاً لإجراء مكالمتين، لأبلغ أبو طالب وأبو حسن بأنني صرت جاراً جديداً لهم، واتفقنا على أن نلتقي في بيتنا عندما يعود كلاهما للمزاورة، ونمضي الليل في استعادة الذكريات والحديث عن رفيقنا الشهيد «أبو الكرار» سلام الله عليه.
انتظرت اللقاء بفارغ الصبر.. حتى تفاجأت في إحدى الليالي بنبأ استشهاد عزيزي «أبو طالب»، لتكون روضة الشهداء ملتقانا الثلاثة بدلاً عن بيتنا، حيث رأيت «أبو حسن» وسلمت عليه، ثم خرجنا تاركين «أبو طالب» خلفنا، كما ترَكَنا خلفه ورحل إلى السماء.
أراد أبو طالب أن يلتزم بميعاد لقائنا، لكنه كان في ساحل الكرامة الغربي، وقد قرر أن يحرر المحاصرين في مدينة الدريهمي، قبل أن يأخد فترة مزاورته التي سنلتقي خلالها، فارتقى شهيداً نقياً طاهراً خلال تلك العملية، تاركاً فينا فراغاً لا يُطاق ولا يُصاول.
لم ألتقِ به، لكنني ألتقي كل يوم بشذاه وعبيره وعطره، وكلما رأيت محمد اشتعل قلبي شوقاً لأحمد، كأنه يصرخ متعجباً: أين ثالثنا؟
ثالثنا قد فاز برحلة العروج إلى السماء، والضيافة الأبدية في رحاب الرحمن، ولا فوز إلا لهؤلاء الرجال، فنحن اليوم في زمن يومه ساعة وساعته بضع دقائق، ولا سبيل للعمر الطويل والحياة الهنيئة إلا بالالتحاق في ركب الشهداء.
يقول المفكر «علي شريعتي»: إن الشعور بحد ذاته جُنحة في عهد الجهل.
لكنني أشعر بحنين غريب، وأبوه يشعر، وشقيقاه يشعران، وأمه العظيمة أكثر من يشعر، فإن كان هناك جهل فعلاً.. فهو الجهل بما نشعر به.
عليكم السلام أيها الرفاق، وإن كان داخلنا يعج اضطراباً.

أترك تعليقاً

التعليقات