أنس القاضي

أنس القاضي / #لا_ميديا -

مؤخراً، ومع تداعيات اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، قامت السعودية وبشكل مستعجل بإخراج المشروع الإقليمي العدواني «كيان الدول المشاطئة للبحر الأحمر» وإقراره رسميا، وذلك من أجل تحويل أي معركة لمحور المقاومة مع الامبريالية الأمريكية وقواعدها العسكرية معركة إقليمية. وأيضاً جاء قرار الرياض تعبيراً عن مخاوفها من أن تتخلى الولايات المتحدة الأمريكية عنها فتصبح بذلك في حاجة إلى تكتل إقليمي تحضر فيه دولة الاحتلال بشكل رسمي لحمايتها ولتحويل معركة التحرر من القواعد الأمريكية إلى حرب إقليمية موسعة. 

المنافسة الدولية والأطماع الصهيونية في البحر الأحمر 
تشكل منطقة البحر الأحمر وخليج عدن أهمية استراتيجية اقتصادية وأمنية متشابكة لكل من مصر والسعودية والسودان و«  إسرائيل»، إلى جانب القوى الإقليمية مثل تركيا وإيران والولايات المتحدة والصين الشعبية. ويشير قرار إقامة الصين أول قاعدة بحرية لها في الخارج في جيبوتي إلى اهتمامها الاستراتيجي بالمنطقة، وبشكل خاص لمشروعها طريق الحرير الجديد (الحزام والطريق). فخلال الحرب الباردة كان للولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي مصلحة مشتركة في الحفاظ على سلامة الممرات البحرية في سيناء وباب المندب، لكن هذا التوافق الدولي مفقود حاليا، مما يجعل المنطقة عرضة للمنافسة بين الأقطاب والدول الناهضة.
«كيان دول البحر الأحمر»، الذي يضم الدول الآسيوية والأفريقية المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن (المملكة السعودية، مصر، السودان، الأردن، الصومال، جيبوتي، الكيان الصهيوني، حكومة هادي كممثل عن اليمن) ليس حصيلة اللحظة، بل له جذور تاريخية عديدة، فسبق أن قدمت كل من السعودية ومصر، في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، مقترحات لإنشاء «منتدى البحر الأحمر»، وقد نادى مبعوث الاتحاد الأوروبي للقرن الأفريقي -العام الماضي- إلى إحياء مشروع «منتدى البحر الأحمر» انطلاقاً من أهمية الممرات البحرية للاقتصاد الأوروبي. 
كما أن التدريبات العسكرية التي أجرتها القوات المصرية مع عدد من دول المنطقة، على رأسها الأردن، تحت عنوان «مناورات العقبة»، ومع السعودية تحت مسمى «النجم الساطع»، ومع الإمارات باسم «زايد»، كل هذه المناورات أتت في إطار هذا التحرك الذي يهدف إلى تدشين كيان موحد يجمع الدول المطبعة مع الكيان الصهيوني والتي تقود «صفقة القرن» لتصفية القضية الفلسطينية. كما أن مساعي السعودية والإمارات للإصلاح بين إثيوبيا وإريتريا التي جرت عبر موجة من المفاوضات بحضور أمين عام الأمم المتحدة ومفوض الاتحاد الأفريقي، جاءت كذلك في هذا الاتجاه.
ويأتي إنشاء هذا الكيان أيضاً في إطار التمهيد لموجة تطبيع جديدة مع الكيان الصهيوني، بحجة اشتراكه مع دول التكتل بالمُشاطئة في البحر نفسه، وبحجة قربه من مشاريع السعودية السياحية الضخمة كمدينة نيوم التي أعلن إطلاقها العام قبل الماضي.
يمثل التواجد «الإسرائيلي» عن طريق البحر الأحمر في أفريقيا والجزر الواقعة عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر تهديداً للمصالح الاستراتيجية والتجارية للدول الأفريقية ودول شبه الجزيرة العربية، فتواجد «إسرائيل» في هذا المكان يتيح لها إمكانية التجسس على الدول العربية، بالإضافة إلى تأمين تجارتها والقيام بدور الوسيط في تسويق الصادرات، ويمكنها من ترتيب أوضاعها بما يخدم المصالح «الإسرائيلية» والأمريكية معاً، ولذلك تحرص «إسرائيل» بدقة على مقاومة عروبة منطقة البحر الأحمر.
ويلبي هذا المشروع العدواني الجديد مساعي «إسرائيل» للخروج من عزلتها والحصول على المزيد من الشرعية الدولية، وإقامة علاقات دبلوماسية مع أكبر عدد ممكن من الدول الأفريقية ودول شبه الجزيرة العربية كمدخل للقيام بنشاطات أخرى اقتصادية وأمنية، وكوسيلة لنفي الصورة العنصرية للكيان الصهيوني.

دوافع قيام هذا التكتل
عرض الكيان قيام فرص استثمارية على شواطئ هذه الدول، إنما لا يُمكن فصل هذا الجانب الاقتصادي عن الجانب السياسي العسكري الذي يتفوق من حيث الأهمية على الدافع الاقتصادي، ألا وهوَ استشعار السعودية وجود خطر عليها من سواحل البحر الأحمر وخليج عدن. كما أن وجود قوات الجيش واللجان الشعبية اليمنية في مياه البحر الأحمر تعتبره المملكة السعودية تهديداً. 
ففي أكتوبر من العام الماضي، بعد العملية (الدفاعية) لقوات البحرية اليمنية في ميناء جيزان في إطار حق الرد على العدوان الامبريالي الخليجي على بلادنا، قامت القوات السعودية بعملية عسكرية إعلامية سمتها الضفادع البشرية، ويبدو أنها منذ ذلك الوقت تنبهت إلى ضعف قواتها البحرية.
كما تسعى السعودية لاستباق منح السودان، جزيرة «سواكن» الواقعة في البحر الأحمر لتركيا، وكذلك خطوة من الرياض لمواجهة النشاط القطري التركي في البحر الأحمر. وفيما يتعلق بالهواجس الأمنية السعودية إقليمياً، ترى الرياض أن طهران تحاول حرمانها من الوصول إلى البحر الأحمر كطريق شحن احتياطي لمنتجاتها النفطية، في حال أقدمت إيران على إغلاق مضيق هرمز في الخليج.
وفيما يتعلق بالتوجهات الأمريكية وعلاقتها بهذا الكيان، فيذكر أن إدارة ترامب دعت دول المنطقة الموالية لها مراراً للدخول في تكتلات عسكرية وأمنية كما سُمي بـ«الناتو العربي»، وسيُعد تمويل السعودية لتسليح هذا الكيان بسلاح أمريكي طريقة أمريكية جديدة لجباية ريع النفط السعودي.

الهدف السياسي لكيان البحر الأحمر بقيادة السعودية
بات من الضروري بالنسبة للسعودية القيام بترتيب إقليمي جديد، بعد تزعزع وحدة مجلس التعاون الخليجي، والتوجه النسبي لدولة قطر باتجاه تركيا وإيران، وهذا يُعد أحد أهداف تشكيل الكيان. وتحاول السعودية عبر بناء التكتلات أن تظهر دائما بمكانة القائد، وأن تربط مصيرها بمصير تكتلات، وأن تستند إلى محاور لتعويض الضعف الداخلي الذي تعانيه. وكذلك تسعى السعودية إلى إغلاق المنطقة كبحيرة إمبريالية صهيونية واحتواء القواعد العسكرية الفرنسية والصينية في جيبوتي، وذلك من خلال التقليل من فاعلية تلك القواعد بسبب انضمام جيبوتي طوعاً أو كرهاً إلى هذا التكتل الأمريكي، وذلك في إطار مواجهة انتصار محور المقاومة على منطقة العراق والشام، وكذا مزاحمة دول الاتحاد الأوروبي في إطار صراع الضواري الامبريالية. كما تحاول الدبلوماسية السعودية جذب دول تحتفظ بعلاقات مع إيران، مثل الصومال وجيبوتي والسودان، إلى الكيان الجديد عبر تقديم مساعدات اقتصادية واستثمارات لهذه الدول الفقيرة، ضمن هذا الكيان، بما يدفع للتأثير سلبا على علاقاتها مع إيران.
وتجد مصر رغبة في المشاركة بالكيان الجديد الذي يقع ضمن المجال الحيوي للأمن القومي المصري، وترعاه الولايات المتحدة، ويظهر أمام شعبها أنه ليس موجها ضد إيران بشكل مباشر خدمة لدول الخليج، إنما تبدو مهمته حماية أمن الممرات البحرية، الذي يُعد هدفاً استراتيجياً مصرياً، وحاجة اقتصادية للقاهرة في إطار التنسيق بين ما تسمى «الدول المشاطئة».

الوجود العدواني «الإسرائيلي» في البحر الأحمر
تشهد منطقة البحر الأحمر تنافساً دولياً واسع النطاق بين القوى الإقليمية والدولية على تعزيز نفوذها في هذه المنطقة الهامة. وتأتي الولايات المتحدة الأمريكية حليفة الكيان الصهيوني في مقدمة الدول الكبرى الأكثر نفوذاً في البحر الأحمر الذي يحتل مكانة خاصة في الاستراتيحية الاستعمارية الأمريكية، لأهميته في ربط القارات، وارتباطه المباشر بالإقليم الذي يزخر بالنفط الخليجي العراقي الإيراني الليبي، وباعتبار البحر الأحمر الخط الملاحي الأبرز عالمياً الذي يمر عبره النفط السلعة الأولى عالمياً ومصدر الطاقة الأول في العالم. 
التواجد العسكري الصهيوني في منطقة البحر الأحمر ليس مصادفة ولا نتاج حاجة أمنية دفاعية في مواجهة العرب، بل هوَ من صلب المشروع التوسعي الصهيوني، وباب المندب جزء من مشروع توسعي صهيوني أوسع في أفريقيا واتجاه المحيط الهندي. 
تُعد إريتريا إحدى أبرز بؤر التواجد الصهيوني في البحر الأحمر ومنطقة باب المندب بشكل خاص، فقد سارعت «إسرائيل» إلى احتواء إريتريا، وإقامة قاعدة عسكرية خاصة بها في ميناء مصوع، والاستفادة من الجزر الإريترية على امتداد ساحلها على البحر الأحمر والذي يضم أكثر من 360 جزيرة. 
ومن أهم تلك القواعد التي ترابط فيها القوات الصهيونية قاعدة رواجيات ومكهلاوي على حدود السودان، وقواعد جوية في جزيرة حالب وجزيرة فاطمة، إضافة إلى جزيرة دهلك التي أقامت فيها «تل أبيب» قاعدة بحرية.
فالوجود الصهيوني قديم وله علاقة بباب المندب، وهو من الاستراتيجية الصهيونية من بعد حرب 73 بعد أن تم إغلاقه. كما أن مخطط مشروع القناة الثانية المنافسة لقناة السويس بين البحر الأحمر والبحر المتوسط الذي يعد مشروعا استراتيجيا يرتبط بتأمين باب المندب. وحين أعلنت السعودية أن الكيان يهدف لحماية واستقرار جيرانها، كان في ذلك إشارة للكيان الصهيوني. 
من جانبها أعلنت سلطة المطارات في دولة الاحتلال «الإسرائيلية»، مطلع مارس 2019 أن من المتوقع افتتاح ثاني مطار دولي في «إسرائيل» قرب منتجع «إيلات» المطل على البحر الأحمر في 22 يناير. ويذكر أنه حين قصفت «حماس» عام 2014 «مطار بن جوريون» في «تل أبيب» ألغيت الرحلات الدولية لبضعة أيام. وتأمل «إسرائيل» أن يساعد المطار الجديد في تعزيز السياحة إلى «إيلات».

البحر الأحمر يشهد مناورات عسكرية دولية كبرى
عقب إنشاء التكتل أجرت قوات عسكرية من السعودية ومصر والأردن والسودان وجيبوتي واليمن والصومال، فعاليات التمرين البحري المختلط «الموج الأحمر1» في مقر قيادة الأسطول الغربي السعودي، وكان من أهدافه رفع القدرة القتالية لمختلف العمليات البحرية، وتوحيد المفاهيم التكتيكية للقيادة والسيطرة، كما شمل التمرين سيناريوهات متنوعة. 
وفي سبتمبر 2018 قامت الولايات المتحدة الامريكية بأكبر مناورات عسكرية في البحر الأحمر. وقال موقع «ديبكا» الاستخباراتي «الإسرائيلي»، نقلاً عن مصادر عسكرية، إن هذه التدريبات هي الأولى من نوعها، وتتركز على احتمالات اندلاع مواجهة عسكرية شاملة أو محدودة ضد إيران. والهدف من هذه التدريبات يتمثل في كيفية التعامل مع احتمالات قيام قوات البحرية الإيرانية بإغلاق منفذين بحريين حيويين، وهما مضيق هرمز في الخليج، وباب المندب في البحر الأحمر. وقد شهد البحر الأحمر خلال ديسمبر الماضي أكبر عمليات مناورات في تاريخه، حيث قام السودان بعملية مناورات كبرى على ساحل البحر الأحمر شاركت فيها القوات البحرية والبرية والجوية. كما قامت مصر وفرنسا بعملية مناورات عسكرية ضخمة. وفي يوليو الماضي قامت الولايات المتحدة الامريكية ومصر والإمارات والسعودية بمناورات محدودة في البحر الأحمر.

علاقة الكيان بـ»الناتو العربي»
قبل فترة أثير الحديث عما أطلق عليه «الناتو العربي»، وهو الكيان العسكري المفترض تكوينه من عدد من الدول الخليجية والعربية بدعم أمريكي «إسرائيلي»، وتوجيهه نحو محور المقاومة وفي مقدمته جمهورية إيران الإسلامية. ويرى مراقبون أن الكيان الجديد ربما يكون بديلاً للناتو العربي. وهذا الكيان يوجد ميزات، منها أنه ربما يزيل الحرج المصري والأردني بشأن المشاركة في ناتو يهدف إلى حماية أمن الخليج في المقام الأول في مواجهة إيران، وخاصةً أن الكيان الجديد يتماشى مع أهداف السعودية والإماراتي اللتين تعتبران ساحل القرن الأفريقي امتداداً «لأمنهما القومي». 

التداعيات المحتملة 
للتكتل تداعيات مباشرة على الملف اليمني عسكريا وفي ما يتعلق بإطباق الحصار، وتحويل معركة العدوان في الساحل من غزو إلى معركة تكتل إقليمي يدافع عن أمنه واقتصاده وإيهام شعوب هذه الدول بأن الحرب الإمبريالية التي تخاض ضد اليمن إنما هي معركة وطنية تخصهم. 
القراءة الأولية تشكك في نجاح هذا الكيان الجديد، أو توجهه ليصبح أزمة في منطقة القرن الأفريقي، وذلك لأن هذا الكيان شهد غياب دولتين مؤثرتين في أمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وهما إريتريا المطلة مباشرة على البحر الأحمر، وإثيوبيا صاحبة التأثير الأكبر في منطقة القرن الأفريقي والتي توترت علاقاتها مع الرياض بصورة كبيرة خلال الفترة الأخيرة، وهو ما يمثل أزمة يمكن أن تشهدها هذه المنطقة الساخنة إذا لجأت الدول الأخرى من أصحاب المصالح في البحر الأحمر، مثل تركيا وإيران وقطر، لتشكيل كيان موازٍ يضم إريتريا وإثيوبيا، أو العمل على اختراق هذه الآلية وإجهاضها من خلال علاقاتهما الجيدة مع بعض الدول، عن طريق تقديم مساعدات مالية وعسكرية.

أترك تعليقاً

التعليقات