أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
نحن مقبلون على مهام تاريخية في بناء يمن جديد قوي مزدهر لكل اليمنيين، ينسجم مع موقعه الجيوسياسي، ومع الأدوار الاستراتيجية التي يقوم بها الآن في صدام مباشر مع نظام الأحادية القطبية ووكيلها الصهيوني في الإقليم، في مرحلة تتسم بالتحولات العالمية، وهناك قضايا داخلية لا بد من التحاور حولها، قضايا لا بد منها في عملية البناء، وهي قضايا «الحرية الفكرية، والنقد، والمعارضة، والإعلام والقمع»، وعلاقتها بأجهزة الأمن.

الحرية
الحرية الفكرية هي شرط الإبداع والتقدم الاجتماعي وازدهار الأوطان، القمع -من الأسرة، المجتمع، الدولة- هو ما يعوق التقدم، وهو يشمل مختلف مجالات الحياة والنشاط.
على سبيل المثال الناقد لا يستطيع نقد كل نص، الخبير لا يقول كل شيء فهو يُدرك إلى أي مدى السلطة والمجتمع سيتقبلون منه، وكذلك اللجان التي تشكلها السُلطة لبحث قضايا لا تقول كل شيء خصوصاً إذا كان ما سوف تقوله لن يعجب الجهة التي شكلتها. ممنوع بحث بعض القضايا، الصحافة لا تتناول كل القضايا، النقابي والسياسي لهما سقف معين في النشاط، الرسام لا يستطيع رسم كل ما يخطر بباله، وكذلك الشاعر والممثل، والنحات، والأكاديمي، والموظف، وحتى في الوسط غير الحكومي، في الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني أيضاً هناك سقوف!
لا أتحدث هنا عن السقف الأخلاقي القيمي ولا عن السقف السيادي الوطني، الذي لا يُفترض تجاوزه، إذ إن الحرية لا بد أن يكون لها مضمون اجتماعي، ولا تعني التجرد من الالتزامات، والدستور والقانون التوافقيان هما من يحدد السقف، وواقعياً الدستور الراهن معدل أكثر من مرة من بعد عام 1994م بصورة غير شرعية، وبما يلبي مصالح وتصورات القوى التي استأثرت بالسلطة بعد حرب صيف ذلك العام.
إن السقف الذي يعوق الحرية والذي أتحدث عنه هنا، لا علاقة له بالقيم والمصالح الوطنية، بل يتعلق بالمصالح والأهواء ذات الطابع الشخصي والنخبوي الأوليغارشي، متعلق بوعي السلطة والمجتمع الذي يدير الحياة بالقسر والذي ينبذ الحرية والحق في الاختيار والحوار والإقناع، سقف من الاستبداد يغذيه الجهل ويترسخ بالقمع، وفي ظروف كهذه من الصعب أن يكون هناك تقدم إلى الأمام، وإن حدث فسيكون بطيئاً وصعباً وبكلفة أكبر، وتشجع هذه البيئة الفكرية على النفاق والتزلف والأنانية وتثبط البحث والإبداع واستشعار المسؤولية.

النقد
نحن بحاجة إلى أن نقبل النقد مادام سلمياً الناقد ليس مرتبطا بدولة أجنبية، فالتعاطي معه ضروري، بل إن النقد والنقد والبناء خصوصاً مهم لكل حكومة جيدة وتسعى لأن تكون أفضل فكيف إن كانت سيئة، إن النقد مهم لأن الواقع البشري ليس فيه الكمال بل الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى بالنقد والإصلاح، أو الانحدار والانحطاط.
خارج حدود دول الفقر والجوع والجهل والعصبية لا يُدافع عن الحكومة إذا قصرت أو فشلت أو كان فيها فساد، هناك على الدوام محاسبة ممن انتخبوها وممن لم ينتخبوها، والمساندون للحكومة أكثر نقداً لها لأنهم يشعرون أنها تبتعد عن المقاصد التي من أجلها انتخبوها.
من السذاجة الدفاع عن الحكومة فهي جهاز إداري، الدفاع يكون عن الوطن وهو الباقي والحكومات تتغير أكانت جيدة أم سيئة. إن النقد والمعارضة جزء من المسؤولية الاجتماعية، وفي هذا الموضوع نتذكر كلمة السيد عبدالملك قائلاً: «إن من أهم العوامل التي تساعد على التغلب على كل التحديات، وعلى أن يواصل شعبنا اليمني العظيم مشواره في التقدم إلى الأمام وإنجاز مطالبه وتحقيق حلمه ببناء دولة عادلة، هي الروح الثورية والتحرك الشعبي المقوِّم دوماً لأي انحراف.. يجب دائماً أن نحرص على رصد وضعنا السياسي، أن ندرك أننا كشعب يمني في حالة تساهلنا أو غفلنا أو فقدنا الاهتمام بشأننا وواقعنا السياسي فإن المتربصين كثر، والانتهازيين أكثر، وفي أي لحظة من لحظات الغفلة أو اللامبالاة أو انخماد الروحية الثورية يمكن أن يحاولوا أن يقفزوا من جديد ويحاولوا أن يتغلبوا على آمال هذا الشعب وأن يحققوا طموحاتهم الإقصائية والاستبدادية والاستئثارية، ولكن من الآن وقدماً قدماً ليبق شعبنا اليمني مدركاً مسؤوليته تجاه نفسه وأنه لا يمكن أن يراهن على أحد».
صحيح أن هذا الخطاب -في 24 سبتمبر 2014م- كان يقصد به الحكومة التي سوف تتشكل لاحقاً، إلا أن السيد ليس شخصية سياسية انتهازية، وهو لا يرى اليوم أن الحكومة مادام فيها أنصار الله باتت فوق النقد، فكيف وخطاباته طوال شهر رمضان المبارك الماضي وخطابات دروس من عهد الإمام علي كانت تتضمن نقدا لأداء الحكومة وأساليب العمل الحكومية، والتصورات الاستبدادية والطفيلية عن المسؤولية.

الإعلام والقمع
في الماضي كان من يسيطر على مبنى الإذاعة والتلفزيون ويعلن الانقلاب يسيطر على السُلطة، وقد كانت الإذاعة والتلفزيون توضع داخل معسكرات، أما اليوم فبات للأشخاص كأفراد إذاعات وقنوات، ووسائل تواصل اجتماعي، والذكاء الاصطناعي يتطور بشكل مخيف ويندمج في مجالات إنتاج ونشر المعلومة وتزييف الصور والفيديوهات، نحن في واقع مختلف بشكل جذري عن الوضع الإعلامي السابق، ومن غير الموضوعية الاستمرار في ذات السياسات السابقة.
القضية هي ببساطة هي إما التعامل مع الخطاب المعارض بإيجابية والتحقيق في القضايا التي تطرح، وإما مواجهة هذا الخطاب بخطاب إعلامي لفضح الأكاذيب، وإما اللجوء إلى القضاء للمتضرر أكان شخصاً أو جهة حكومية.
المعارضة الحقيقية والنقد والتشهير والدعايات الكاذبة، ظاهرة تاريخية في كل المجتمعات وعبر التاريخ وجدت، وستستمر، واليوم خرجت عن السيطرة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وأصبح كل فرد مصدرا للمعلومة وناشرا لها.
في وضع كهذا لا بد من التعود على قبول النقد والمعارضة، والتعامل معها بصدر رحب وآليات جديدة بعيدة عن القمع، مزيد من الحرية والشفافية والحصول على المعلومة، واستقلالية القضاء، إيجاد فضاء حر يصبح فيه المجتمع واعيا يصعب التأثير عليه لصالح طرف ضد آخر، ويتخذ مواقفه بناء على معرفة الواقع.
الحل الجذري هو الارتقاء الى هذا الواقع الجديد وإعادة صياغة ممارسة الحكومة بصورة علنية، أمام الشعب، وهذا الأمر موجود في كثير من الدول اليوم، ومؤكد لن يحدث الأمر بين ليلة وضحاها وفي ظل هذه الأوضاع المعقدة لكن المشكلة في الاستسلام لتعقيدات الوضع والجمود فكيف بالعودة إلى ممارسات ما قبل الثورة.
في كل الأحوال تظل هناك قضايا سرية، متعلقة بحماية الأمن القومي والإنفاق والبرامج العسكرية، والمعلومات الاستراتيجية وهذه القضايا في العموم لا تجري على ألسن الشعب، فهم أكثر تركيزاً على ما يمس حقوقهم ومعيشتهم وحرياتهم المباشرة.
التطورات التقنية، تدفع نحو مشاركة سياسية أوسع للمجتمع، ونحو العلنية، لهذا فلا بد من الاقتناع بقيم الشفافية والعلنية، وتطوير القوانين والمؤسسات للتفاعل مع هذا التطور الذي يتعمق كل يوم.
يطور الذكاء الاصطناعي تقنيات الإعلام، والتزييف، وصناعة الوثائق والصور والفيديوهات والأصوات، وبناء شخصيات ومنصات، تطور متسارع مخيف، يطرح أسئلة أخلاقية وفلسفية، يجعل الشفافية وعدم وجود شيء تخفيه الحكومة، هو الحل ليعرف المواطن هل هذا الأمر حقيقي أم لا، تطور الإنسانية، يجعل من آليات الدولة والحكومة في التعامل مع المعارضة والخصوم التي ترسخت طوال عقود أمرا من الماضي.

الأمن
في البداية نبارك لجهاز الأمن والمخابرات اليمني الجهاز الوطني، ضبط الخلية المتورطة بالتخابر مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، المتعلقة بالعمليات البحرية.
إذا كانت الأجهزة الأمنية هي الأساس القمعي الذي قامت عليه السلطة سابقاً وفرضت عبرها الطابع العسكري للحكم، وقمعت بواسطتها الحقوق المدنية بشقيها الاجتماعي والسياسي الديمقراطي، فإن الرئيس الصماد، جاء برؤية مغايرة للطبيعة السابقة للأجهزة الاستخباراتية، لتقوم على أسس وطنية مدنية جديدة، لتؤدي مهامها الدستورية الفعلية في حماية الحقوق الدستورية والأمن القومي للبلد. حيث يحدد الصماد أن تكون «عملية التعامل مع الناس وفق الدستور والقوانين، وأيضا احترام كرامة الناس والتعامل معهم بتكريم، مما يجعل الناس يرتاحون لذكر جهاز الأمن السياسي وجهاز الأمن القومي، عندما نحس أنها أجهزة تعمل على بث الأمن والطمأنينة، كانت سابقاً تخدم أجندة، البعض كان يتهيب من ذكر اسم الجهاز إذا ذُكر له الأمن السياسي، نحن نريد أن يرتاح الناس أن تُبث الطمأنينة عندما يُذكر جهاز الأمن المركزي السياسي لما يقوم به من دور في بث الأمن والاستقرار» (كلمة الصماد في تخرج الدفعة 35 والدفعة 11-12 للعام التدريبي 2018م لمنتسبي الأمن السياسي -سابقاً).
وهذه الرؤية الجديدة التي أرادها الصماد للأجهزة الأمنية تُعد انقلابا تاما على مفهوم الأمن السياسي سابقاً الذي كان سائداً قبل التعددية الحزبية، فيما يرى الرئيس الصماد أن هذا الجهاز يجب أن يرتقي نشاطه إلى حماية أمن البلاد من الجماعات الإرهابية والاختراقات الاستخباراتية ورعاية الحقوق والحريات الدستورية.
ليظل جهاز الأمن والمخابرات مثل الجيش يدافع عن الوطن من الأخطار الخارجية، يشعر الناس بالأمان، وأن هناك من يسهر على حمايتهم، أما صراع السلطة والمعارضة سيظل مع هذه الحكومة ومع أي حكومات لاحقة فهو لا ينتهي، وجهاز الأمن ليس عليه الانحياز لأحد، في هذه القضايا السياسية.
إن القضايا الواردة سابقاً هي قضايا حوار، لا بد من بحثها والوقوف عندها، فهي تدرس حالة عامة عربية واليمن جزء منها، نطرحها من أجل تجاوزها، من أجل الولوج إلى عهد جديد يليق بالتضحيات التي قدمها الشعب ويضمن له حياة حرة كريمة.

أترك تعليقاً

التعليقات