مستجدات الحراك الروسي الصيني
 

أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
قام الرئيس الصيني شي جين بينغ بزيارة موسكو ولقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهي الزيارة الخارجية الأولى له من بعد إعادة انتخابه رئيساً لجمهورية الصين الشعبية، وتأخذ الزيارة الخارجية الأولى رمزية في توجه الحكومة الجديد لأي بلد.
تأتي الزيارة في إطار حراك روسي صيني واسع شمل منطقة العالم العربي وإفريقيا منها اتفاقية المصالحة الإيرانية السعودية، والمناورة الروسية الصينية الإيرانية في بحر عمان، وفي ظل تعقيدات الأزمة في أوكرانيا، ومنها ما يتعلق بمحاولات فرض المزيد من عزل روسيا ورفع دعوى في الجنايات الدولية ضد الرئيس الروسي.
تعد الزيارة محطة هامة في إطار المساعي الروسية الصينية في ترسيخ نظام التعدية القطبية عالمياً، ومواجهة الهيمنة الغربية الأمريكية الأوروبية، ولهذا تضمن البيان المشترك، العديد من النقاط التي تدافع عن مبادئ الأمم المتحدة التي انتهكها الغرب تاريخياً وبشكل أكبر من بعد تفكك المعسكر الشرقي.
للزيارة بُعدان: بُعد خاص يتعلق بالعلاقات الثنائية بين روسيا والصين وهي في حالة تطور مضطرد تتوخى المصالح القومية المباشرة، وبُعد عام له علاقة بالقضايا الدولية والتعددية القطبية، وهذه الأبعاد مترابطة.
اعتبر الرئيس الصيني أن العالم يشهد تحولات لم تحدث منذ 100 عام، وإذا ما عدنا إلى العام 1920، نجد فعلاً أن واقع بلدان المستعمرات القديمة -وكذلك واقع روسيا والصين والهند- اليوم أفضل، ووضع قوى التحرر الوطنية أفضل بكثير مما كان عليه الحال قبل 100 عام رغم الانتكاسة التي حدثت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي مع تغول العولمة الإمبريالية.
أبدت الولايات المتحدة انزعاجاً كبيراً من الزيارة، وبشكل أدق انزعاجاً من تطور العلاقة الروسية الصينية التي هي اليوم أوثق مما هي عليه إبان العلاقة مع الاتحاد السوفيتي؛ فالزيارة أتت لتؤكد المخاوف الأمريكية وتذكرها بالملفات والمستجدات التي تخرج أحداثها عن السيطرة الأمريكية -نسبيا- رغم المتابعة الأمريكية الدقيقة لتحولات الواقع، وقيامها بردود أفعال إزاء ذلك.
قرَأت الولايات المتحدة في مضمون الزيارة تهديداً مباشراً على الغرب عموماً، تهديدا يتجاوز الأزمة في أوكرانيا، وهي مسألة يتفق حولها السياسيون والعسكريون والاستخباراتيون الأمريكيون.
تشير التطورات ومن بينها صمود اليمن والانفراج النسبي بالنسبة لسوريا، والمصالحة الإيرانية السعودية الى وجود حراك روسي صيني شامل يهدف إلى تطويق الولايات المتحدة، وإقامة علاقات تتجاوز خارطة المعسكرات القطبية القديمة، خصوصاً تنامي علاقات البلدين مع كل من السعودية وإيران، فقد كانت كل من الرياض، وطهران (قبل الثورة الإيرانية 1979) جزءا من المعسكر الغربي، وفي حالة صدام مع حلفاء المعسكر الشرقي في إطار الحرب الباردة.

إلى جانب ذلك فهناك عودة روسية جدية نحو إفريقيا، على حساب الوجود الغربي الفرنسي الأمريكي، وقد وطدت روسيا علاقات مع كل من مالي وبوركينيا فاسو وإفريقيا الوسطى والجزائر ومصر، ومن هذه المؤشرات تصريح بوتين باستعداد روسيا تقديم القمح مجاناً للدول الإفريقية والوقوف إلى جانبها، فيما تحتفظ الصين بعلاقات اقتصادية واسعة في عموم دول إفريقيا.

مخرجات الزيارة
وأكد الرئيس الصيني شي جين بينغ عقب محادثاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن "العلاقات الصينية الروسية تجاوزت كونها علاقات ثنائية، وهي ذات أهمية كبيرة للنظام العالمي ولمصير البشرية". ولخص شي جين بينغ خلال وداعه لبوتين العلاقة الصينية الروسية بالقول: "الآن هناك تغييرات لم نشهدها منذ 100 عام. عندما نكون معا، نقود هذه التغييرات"، ليرد بوتين قائلا: "أوافقكم الرأي".
خرج اللقاء ببيان مشترك، رغم أن القضايا التي نوقشت خلال ثلاثة أيام واستمرت الجلسات لساعات تتجاوز ما ورد في البيان، الذي أكد على قيم سياسية منافية للأحادية القطبية، تمثلت في رفض محاولة استبدال مبادئ القانون الدولي وقواعده المعترف بها.
بيان القمة الروسية الصينية أكد أن البلدين يعارضان فرض دولة واحدة لقيمها على دول أخرى، ودعا البيان حلف شمال الأطلسي "الناتو" إلى احترام سيادة الدول الأخرى ومصالحها، مؤكداً على أن بكين وموسكو تعارضان التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية.
وقال البيان: إن العلاقات بين روسيا والصين، رغم أنها ليست تحالفاً عسكرياً سياسياً، مشابها للتحالفات التي أقيمت خلال الحرب الباردة، تتفوق على هذا الشكل من التفاعل بين الدول، في حين أنها ليست ذات طبيعة تكتلية ومواجهة وليست موجهة ضد الغير.
هذا الأمر يفسر لنا التغلغل الروسي الصيني في منطقة الخليج، وخصوصاً السعودية التي كانت جزءًا من الحلف الغربي حين كانت علاقات الحرب الباردة قائمة على أساس أيديولوجي وعلى أساس الصراع بين معسكرين، فيما العلاقات الحالية تتجاوز هذه الاصطفافات الحادة، وتدعو إلى التعددية القطبية لا هزيمة قطب لقطب آخر.
اللقاء له بعدان، البُعد الأول في ما يتعلق بالعلاقات الثنائية بين البلدين، والبُعد الثاني له علاقة بعالم التعددية القطية، وفي طبيعة الحال لا يمكن فصل الخاص عن العام في هذا اللقاء.
تشهد العلاقة بين البلدين تطورا كبيرا من حيث التبادل التجاري الذي هو في حالة نمو وتقدم مضطرد، وخصوصاً في مجال الطاقة حيث تعتمد الصين على روسيا كمصدر أساسي لتزويدها بالنفط، ومع النمو الصناعي الصيني الهائل فهي قادرة على استهلاك كميات نفطية مهولة وطلب المزيد، كما تعتمد الصين على روسيا للمواد الخام الأخرى، وتتسع المصالح والاهتمامات الثنائية.
وبحسب مدير معهد البحوث الاجتماعية والاقتصادية بالجامعة المالية الروسية، أليكسي زوبيتس، مصالح الصين في روسيا لا تقتصر على المواد الخام. فروسيا هي الدولة الوحيدة التي لديها قدرة نووية مماثلة لأمريكا. الصين ليس لديها مثل هذه الإمكانات. إذا صادقت الصين روسيا، فإن قولها للأمريكيين بأنه لا ينبغي الدخول في حرب ضدها سيكون أكثر إقناعاً.

الزيارة في الحسابات الأمريكية
مجيء اللقاء في هذه الفترة مع تعقد الأوضاع في أوكرانيا على إثر معركة "باخموت"، يثير القلق الأمريكي بشكل خاص، وقد عبر وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، عن قلق بلاده البالغ إزاء زيارة الرئيس الصيني، معتبرا إياها دعماً صريحاً من بكين لموسكو في نزاع أوكرانيا. وأشار أوستن إلى أن الإدارة الأمريكية تراقب عن كثب ما إذا كانت الصين قد بدأت في الإمدادات العسكرية إلى روسيا.
فيما قال مستشار الأمن القومي السابق في البيت الأبيض جون بولتون إن تشكيل تحالف روسي صيني يخلق مشكلة حقيقية للدول الغربية أكثر خطورة من الصراع في أوكرانيا.
وأضاف بولتون أن الغرب يحتاج إلى البدء في مراجعة المفهوم الحالي للردع بسبب حقيقة أن "الصين أصبحت تهديدا في كل من المجال النووي والمجال التقليدي". كما ادعى بولتون أن الصين دعمت روسيا منذ بداية العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، ولم تحاول البقاء على الحياد.
وبحسب كبير الباحثين في "معهد الولايات المتحدة الأمريكية وكندا" التابع لأكاديمية العلوم الروسية، دكتور العلوم الاقتصادية فلاديمير فاسيليف: "حتى وقت قريب، لم تكن واشنطن تؤمن بإمكانية قيام تحالف استراتيجي بين موسكو وبكين، وكانت تأمل في أن يكون هناك الكثير من التناقضات بين بلدينا. أظن أنهم مازالوا يأملون ألا يحدث اتحاد بيننا"، وفقاً لفاسيليف، حتى لو تبنت واشنطن خطاباً أكثر صرامة ضد الصين، فلن تمضي في تصعيد خطير وقطع الصلات. تعتمد الولايات المتحدة بشكل كبير على الصين اقتصادياً.
ولا يبدو أن الزيارة مرت دون رد فعل أمريكي، فبحسب المصادر الإعلامية الأمريكية وقّع بايدن مشروع قانون أقره الكونغرس ليصبح قانوناً يطالب مجتمع الاستخبارات برفع السرية عن البيانات المتعلقة بأصل فيروس كورونا، مع وجود اتهامات أمريكية أن المصدر مختبر في مدينة ووهان الصينية.
وستبدأ فتح ملفات تحقيق للمطالبة بالتعويضات كملف ابتزاز اقتصادي، على غرار "قانون جاستا"، مع العلم أن أمريكا لديها أكبر عدد من الضحايا الذين لقوا حتفهم بسبب فيروس كورونا.

التحالف الروسي الصيني وإيران والسعودية
المحلل السياسي الروسي ألكسندر نازاروف يقرأ الرعاية الصينية للاتفاق الإيراني السعودي، وكذلك المناورة الثلاثية الروسية الصينية الإيرانية في بحر عُمان كجزء من هذا الحراك الروسي الصيني الذي تعزز بهذه الزيارة، فبرأيه لا يمكن النظر في قضية التعاون العسكري دون مراعاة اتفاقية السلام السعودية الإيرانية الموقعة بوساطة صينية، والتي من خلالها وضعت الصين لنفسها موطئ قدم على سواحل البحر الأحمر والخليج.
يعتقد نازاروف أن السعودية اتخذت خطوة جريئة وغير متوقعة نحو المصالحة مع إيران، غادرت المعسكر الأمريكي، إلا أنها لم تدخل رسميا بعد إلى المعسكر الصيني. وهو يعتقد أنها مسألة وقت، ذلك أن محاولات الولايات المتحدة المستقبلية لحرمان الصين من النفط الخليجي لن تترك للرياض والخليج بأسره الحرية في اختيار الجانب الذي سينضم إليه.
وبحسب الباحث فإن السلام بين المملكة السعودية وإيران هو فقط أول الأمور المدهشة التي كانت حتى عهد قريب تبدو من الأمور المستحيلة والتي لم نرها بعد. وعلى سبيل التخيل السياسي يفترض المحلل أنه ربما سنرى في غضون أعوام قليلة مقبلة قوات مشتركة بين الحوثيين والسعودية في شبه جزيرة سيناء، تواجه المحاولات الأمريكية الإسرائيلية لقطع العبور الصيني لقناة السويس.
وكانت قد نفذت كل من القوات البحرية الإيرانية الروسية الصينية مناورة عسكرية مشتركة في الجزء الإيراني من بحر عمان على الخليج الفارسي وشمال المحيط الهندي، تحمل شعار: "السلام؛ الصداقة، الأمن البحري المستدام".

أترك تعليقاً

التعليقات