تجربة التفاوض الفيتنامية واستراتيجيتها
 

أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -

للشعب الفيتنامي تجربة دبلوماسية مميزة، ففي الخمسينيات من القرن الماضي، خاض الفيتناميون عمليات تفاوض عديدة، التجربة الأولى كانت مع المستعمر الفرنسي، لتأمين وجود قوى الثورة والاعتراف بسلطتها وباستقلال شمال فيتنام، بعد الحرب العالمية الثانية وطرد اليابان من الشمال الفيتنامي. والتجربة الثانية كانت في سبعينيات القرن الماضي في مواجهة المستعمر الأمريكي الذي احتل جنوب فيتنام بالتزامن مع الانسحاب الفرنسي. 

في التجربة الأولى قدمت فيتنام تنازلات وصدقت الوعود الفرنسية وعولت على المجتمع الدولي وتعهداته باحترام "اتفاقية جنيف"، وهو الأمر الذي لم يحدث، فسيطرت أمريكا على الجنوب بعد انسحاب فرنسا. أما في التجربة الثانية فدخلت فيتنام في مفاوضات ثنائية سرية وعلنية بموقف راسخ واستراتيجية واضحة، وحيدت التدخل الدولي في رسم مسار التفاوض حتى النهاية.
ولفيتنام تجربة هامة في توسيع التحالفات الوطنية وترتيب الاقتصاد المقاوم وتحشيد الشعب للقتال، ومواكبة النشاط الوطني المتصاعد في الجنوب ضد الاحتلال ورسم الخطط الاستراتيجية. وتتشارك اليمن مع فيتنام في الكثير من القضايا، فدراسة هذه التجربة، بالنسبة لنا كيمنيين، أمر بالغ الأهمية، لتشابه كثير من الحيثيات بين واقع البلدين والعدوين، وكذلك تشابه وتطابق المؤامرات الدبلوماسية والعسكرية. . أوجه الشبه هي كالتالي: 
• تهديد وحدة الجغرافيا الوطنية، واحتلال المحافظات الجنوبية. 
• طرح حلول الأقلمة والتقسيم، وفصل الحل في الشمال عن الحل في الجنوب. 
• وجود حكومة عميلة وتدخل العدو بذريعة مساعدتها وتحت لافتة "شرعيتها".
• الحصار، ومحاولة عزل الحركة الثورية وجمهورية فيتنام الديمقراطية في الشمال، بمحيط يتألف من حكومات ملكية موالية للاستعمار، وقوى عميلة. 
• استمالة أصدقاء فيتنام للضغط عليها، كما فعلت الصين والاتحاد السوفييتي، الذين ضغطوا على هوشي منه في الخمسينيات لقبول الاتفاق مع فرنسا بشروط مجحفة وقبول انفصال الشمال عن الجنوب وإهمال مستقبل الوحدة. 
• تَشَكُلّ التكتلات الإقليمية ونشاط القوى العميلة المحلية، تحت عنوان "محاربة الشيوعية"، كما تُطرح اليوم مسألة "محاربة الخمينية الإيرانية". وكذلك فتنمة الحرب بمرتزقة محليين ومحاولة إظهار الصراع بين قوى داخلية. 
• تركيز العدوين في المفاوضات، الفرنسي في الخمسينيات والأمريكي في السبعينيات، على قضايا الأسرى وخطوط الهدنة ووقف إطلاق النار والانسحابات وغيرها من المسائل التفصيلية، وتجاهل المسائل الرئيسية: استقلال الوطن وحريته ووحدة البلد ومستقبل الشعب السياسي والاقتصادي. 
• عرقلة المفاوضات الثنائية بإحضار الحكومة العميلة ممثلة عن "الشعب الجنوبي"، وإعادة الإمبراطور والنفخ في القومية، ودعم القوميين في الشمال المستقل للإطاحة بالحكومة الثورية من الداخل لصالح المستعمر، وفي حالتنا تمثلت بإعادة "علي عفاش" وإنعاش "الحميرية" كدعوى ضد "الهاشمية". 
• طرح الشروط غير الواقعية، كالانسحاب من المدن وتسليم السلاح وتسليم الأسرى والمناضلين الأمميين. 
• حصار البلد وارتكاب المجازر والسيطرة على الطريق بين العاصمة والمدينة البحرية التي فيها الميناء الوحيد لشمال فيتنام كما فعلت فرنسا، وهو ما يتماثل مع وضع الحديدة وطريق "كيلو 16"، وكذلك قصف العاصمة والمدينة التي فيها الميناء لإطباق الحصار كما فعلت أمريكا في آخر فترتها. 

أهم النتائج والدروس من تجربة التفاوض الفيتنامية 
ضد العدو الأمريكية
التناسق بين العسكري والدبلوماسي وإسناد كل منهما للآخر مثل ميزة للتجربة الفيتنامية. والميزة الأخرى هي المساعدات المتبادلة بين القيادة الثورية الوطنية ووفد المفاوضات، فقد حرصت القيادة الفيتنامية على أن تحضر للمفاوض الفيتنامي عوامل القوة التالية: 
• الأول: تأمين الحد الأقصى من الاستقلالية والاعتماد على الذات في إدارة الحرب، وهذا تطلب بناء قاعدة مادية صلبة في الداخل الوطني قدمت في سبيلها التضحيات.
• الثاني: عدم الركون على الضمانات الدولية، وتحييد التدخل الأجنبي السلبي إلى أقصى حد، فالاتفاق الذي جرى مع الفرنسيين في "جنيف" بضمانة الدول الكبرى لم يُنفذ على الأرض. أما الاتفاق مع الأمريكيين الذي تم في "باريس" دون ضمانات دولية فقد تحقق بالحرف. 
في المفاوضات مع الفرنسيين 1954-1955، أراد الفيتناميون أن يستفيدوا من قوتهم على الأرض في مفاوضات ثنائية مع فرنسا، لكنهم اضطروا بضغط سوفييتي- صيني أن يدخلوا المفاوضات في مؤتمر دولي لا يُشكلون فيه إلا رقما صغيرا، فاخترقت أمريكا الاتفاقية واحتلت جنوب فيتنام وضغطت على فرنسا أن تسلم لها كل شيء، فتم تمزيقاً البلد واحتلال نصفه. 
 أما في تجربة التفاوض مع أمريكا 1968- 1973م فقد استثمر الفيتناميون في مفاوضاتهم السرية والعلنية تفوقهم على الأرض حتى أقصى حد، وكان المؤتمر الدولي لإشهار النتائج التي توصلوا إليها وللإشراف الدولي على سير تنفيذها لا أكثر! 
 في التجربة الأولى كان المؤتمر الدولي للسلام وفق الرؤية الفرنسية. وفي التجربة مع أمريكا كان المؤتمر الدولي دون صلاحيات وفق الرؤية الفيتنامية لا وفق الرؤية الأمريكية التي كانت قد طرحتها على الفيتناميين. 
في التجربة مع الفرنسيين وجهت فيتنام نشاطها الدبلوماسي واستنكارها لعدم تنفيذ الاتفاقيات إلى المجتمع الدولي الذي لا يهتم. وفي التجربة مع أمريكا، وجهت جزءاً هاماً من خطابها الدبلوماسي إلى الداخل الأمريكي، وقد أعطتها الخسائر الأمريكية مصداقية.
الضربة العسكرية والسياسة النفسية التي تلقاها الأمريكيون في "هجوم الربيع" 1968 أتاحت لقطار التسوية الانطلاق في أعقد وأصعب محطات المواجهة العسكرية بين الطرفين، بدأت بمبادرات تكتيكية ومفاوضات ثنائية ومحادثات سرية وجولات رباعية، وتخللها وقفات دامية في جبهات القتال، في ظِل اختلال استراتيجي على الضفة الأمريكية.
الدبلوماسية الفيتنامية بعد "هجوم الربيع" 1968، المطمئنة والمستندة إلى صلابة موقفها، وضعت هدفاً مركزياً وهو إخراج العامل الأمريكي من خريطة الصراع. وظلت التكتيكات والمناورات وحتى التنازلات خلال الأربعة الأعوام تدور لخدمة هذا الهدف، والبحث عن طريقة مشرفة لإشهار الهزيمة الأمريكية ولمساعدة الإدارة الأمريكية على تنفيذ وعودها بسحب القوات العسكرية وإنهاء التورط الأمريكي. 
 لعبت الدبلوماسية الفيتنامية المستندة إلى خبرة واسعة بشؤون العدو وبتفاصيل أوضاعه الداخلية، دوراً هاماً في التأثير الايجابي على التطور العسكري الأخير، حيث بينت أن قدرة الإدارة الأمريكية على الحركة أصبحت مشلولة.
لعبت الدبلوماسية الفيتنامية دوراً هاماً في تزويد القيادة السياسية بمعلومات كافية حول الاتجاهات داخل الإدارة الأمريكية، وحول العلاقات المتشابكة بين الدول الكبرى وانعكاساتها على القضية الفيتنامية، وهو الأمر الذي أبقى القيادة الفيتنامية أمام عدة خيارات مفتوحة.
 وتلك كانت إحدى مميزات الدبلوماسية الثورية، قبل أن يتحقق النصر النهائي عام 1975م.
الإنجازات العسكرية في المرحلة الثالثة مكنت الدبلوماسية الفيتنامية من التجلي بشكل إبداعي، ولم يعد المفاوض الفيتنامي يستجدي الحل السلمي، بل إنه قام بالرد على محاولة نيكسون إحراج هانوي (بالكشف عن المفاوضات السرية عام 1970) بأن قام المفاوض الفيتنامي بإماطة اللثام عن الاتفاق السري الذي أراده نيكسون -عام 1970- بعيداً عن الحكومة الجنوبية العميلة، وهو الاتفاق الذي أجبر الأمريكي لاحقا على توقيعه لتأمين ما سماه الانسحاب "المشرف" للقوات الأمريكية. 

كيف سجل المفاوض الفيتنامي نقاط التفوق على الأمريكي: 
• سجلت الدبلوماسية الفيتنامية أول انتصاراتها قبل بدء المفاوضات بثلاثة شهور، عندما اضطر الرئيس الأمريكي جونسون لوقف القصف الجوي جزئيا، مقابل موافقة الفيتناميين على العودة للتفاوض. فدخل المفاوض الفيتنامي وبيده نقطة تفوق. وأمام صلابة المفاوض الفيتنامي انتهت الجولة الأولى من المفاوضات ومكسب جديد يتعلق بإيقاف القصف الجوي على كامل فيتنام.
• اعترف كيسنجر أن الوقف الجزئي للقصف على فيتنام تم دون الحصول على أي تنازل فيتنامي سوى العودة للمفاوضات.
• الوقف الكلي للقصف تم دون الحصول على أي تنازل سوى موافقة فيتنام بعدم الهجوم على المدن الجنوبية من خارجها، وجاءت هذه الموافقة غير صريحة وعلى لسان الدبلوماسية الفيتنامية.
• وهكذا استغل الفيتناميون حاجة إدارة جونسون الداخلية إلى التفاوض، وفرضوا عليها التنازلات الممكنة. 
نلاحظ أن الفيتناميين لم يتورعوا عن تعطيل المفاوضات السياسية لثلاثة شهور في سبيل مسألة إجرائية تتعلق بمكان وطريقة جلوس وفد جبهة التحرير الجنوبية، أي شكل طاولة المفاوضات الرباعية التي حسمتها الدبلوماسية السوفيياتية بطاولة مستديرة.
عملت القيادة الفيتنامية على تجريد الدبلوماسية الأمريكية من مكاسبها حتى في الإطار الدعائي، فبعد شهر واحد من تولي نيكسون الإدارة الجمهورية استمرت القيادة الفيتنامية في تصعيد العمل العسكري واستثمار الوضع الداخلي الأمريكي بطريقة لم تسمح للأمريكي باعتماد استراتيجية للتفاوض لمدة عام كامل، لأن إدارة نيكسون وكما اعترفت فيما بعد وقعت آنذاك بين: مطرقة فيتنام وسندان المعارضة الداخلية.
وباعتراف كيسنجر كان هدف الفيتناميين قتل أكبر قدر من الأمريكيين، وتحطيم الوحدة الداخلية في الإدارة الأمريكية، ويُعد هذا الإبداع بين العسكري والدبلوماسي من مميزات التجربة الفيتنامية. 
 حرص الفيتناميون على متابعة تكتيكات المفاوض الأمريكي وإحباطها في مهدها، وقد تطلب ذلك الكثير من اليقظة والحذر وطول النفس، وأحيانا تعليق المفاوضات أو إيقافها، ومن هذه التكتيكات الأمريكية التي أحبطها المفاوض الفيتنامي إعطاء أمريكا أولوية للتفاصيل العسكرية حول الأسرى ووقف إطلاق النار، على القضايا السياسية الرئيسية المتعلقة بمستقبل فيتنام واستقلاله ووحدته. وكانت أمريكا تتبع هذا التكتيك تحت ذريعة أن المصير السياسي متعلق بالأطراف الفيتنامية لا بأمريكا.
في المجال الإجرائي كان الأمريكيون غالباً هم الذين يطلبون المفاوضات العلنية أو السرية، ويأتي الرد الفيتنامي متأخراً عدة أيام أو أسابيع عن قصد.
في المجال التفاوضي ظل الفيتناميون يحتفظون بثقة عالية ويتعاملون على أنهم أسياد الطاولة، سواء عند تقديمهم مقترحاتهم أو إلقاء كلماتهم أو عند استدعائهم وردهم على المقترحات الأمريكية.
جاء في مذكرات كيسنجر أن الفيتنامي كان يقدم مقترحاته على أساس أنها المقبولة والمنطقية لعملية تسوية عادلة، وكان يواجه الأطروحات الأمريكية بالتفنيد بطريقة تشكك الطرف الأمريكي في سلامة موقفه وحججه، وبطريقة تجعل الفيتنامي يدفع الأمريكي "لإزالة الاحترام الذي يكنه لنفسه".
وبالنسبة لأسلوب التفاوض فلم يلتزم الفيتناميون برتابة وأسلوب معين، كانوا يبتدعون طرقاً للاتصال بالآخر ومخاطبته وفق الظرف المحدد والهدف التكتيكي المحدد. ووفق تعبير كيسنجر فالمفاوضات الفيتنامية لم تكن منفصلة عن المعركة، بل كانت جزءاً منها، لم تكن الطريقة المؤدية إلى اتفاق وإنما كانت أداة حرب سياسية.

استراتيجية التفاوض الفيتنامية
من دراسة تجربة التفاوض الفيتنامية مع أمريكا نتبين ثلاث ركائز استراتيجية: 
• أولاً: استندت المفاوضات قبل أي شيء إلى تحليل وافٍ للأوضاع العامة للطرف الآخر عسكريا واقتصاديا وسياسيا، وإلى تحليل سياسي لأوضاع الحزب الديمقراطي الحاكم، وإلى تحليل خاص للأوضاع داخل الإدارة الأمريكية وبين أجنحتها (البيت الأبيض، البنتاجون، والخارجية)، وفي المقابل تقدير موضوعي لأوضاع الجبهة الفيتنامية وتحالفاتها الإقليمية والعالمية دون مبالغة. 
• ثانيا: في ضوء التحليل المذكور أعلاه، جرى التخطيط للاستراتيجية التفاوضية، من حيث هدفها الرئيسي وأهدافها الفرعية وانطلاقتها ومراحلها وأساليبها المختلفة وأدوارها المباشرة والبديلة.
• ثالثاً: عندما تقرر عقد المفاوضات، كانت الدبلوماسية الفيتنامية قد أعدت لمفاوضيها -في ضوء التحليل السابق ووفق الخطط المعتمدة- ملفات وافية حول الوضع الأمريكي العام حتى ساعته، وحول دوافع جونسون للمفاوضات، والحالة السياسية والمعنوية والشخصية للمفاوضين الأمريكيين، والقضايا السياسية والمسائل الإجرائية والأمور التفصيلية.
وبعد توفر تلك الركائز كان سهلا على المفاوض الفيتنامي أن يبدع في استثمار عناصر تفوقه وفي محاصرة تكتيكات خصمه.

أترك تعليقاً

التعليقات