العقيدة السياسية لكوريا الديمقراطية
 

أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
اختطت جمهورية كوريا الديمقراطية طريقاً خاصاً في تطورها الاقتصادي الاجتماعي السياسي ممايزاً عن التجربة السوفييتية وعن التجربة الصينية في بناء الدولة وإجراء التحولات الاجتماعية الاقتصادية الثورية، في صالح الطبقات المنتجة والمستضعفة. ويُمكن القول بأن «كيم إيل سونغ» مؤسس كوريا الشمالية قام بإثراء التجربة الثورية العالمية انطلاقاً من الواقع الملموس في بلده.
ليس القصد من هذه المادة نقل تجربة كوريا الشمالية إلى بلادنا، فلهم خصوصية التطور الاجتماعي كما لبلدنا خصوصياتها، إلا أن هناك قانونيات عامة تسري على مختلف الشعوب، وقراءة التجارب الثورية بقدر ما تقدم الإلهام وحصيلة التجربة الإنسانية، فهي تزيد من صلابة الثوريين وتؤكد لهم قدرة الشعوب الناهضة على تغيير واقعها.
من الملاحظ أن كثيراً من توجهات السيد القائد في تجربتنا الثورية اليمنية الراهنة تقترب من التوجهات الثورية في كوريا الديمقراطية، مع خصوصية انطلاقها من الثقافة القرآنية التحررية.
تتناول هذه المادة بشكل أساسي العقيدة السياسية الاستقلالية لجمهورية كوريا الديمقراطية التي حافظت على استمرار مبادئها الثورية وصمودها وموقفها ضد الإمبريالية والصهيونية رغم الانتكاسة في الموقف الصيني والموقف الروسي ومعظم دول المعسكر الشرقي من هذه القضايا.

قائد الثورة
كيم إيل سونغ (1912-1994) هو مؤسس كوريا الديمقراطية الشعبية، وزعيم حزب العمال الكوري (الحاكم)، ويُعد من أبطال حرب التحرير الشعبية في مواجهة اليابانيين ثم ضد الغزو الأمريكي، كما كان له دور كبير في دعم المقاومة الفلسطينية والحرب العربية ـ «الإسرائيلية» عام 73 والثورة الإسلامية الإيرانية، ولا تزال كوريا على النهج المقاوم ذاته.

طريق كوري مستقل
شدد كيم إيل سونغ على شق طريق التطور المستقل والاعتماد على الذات، والذي جاء بناء على تجربة كفاحية خاضها، أشار إليها في أحد الحوارات بقوله: «في مجرى كفاحي في سبيل حرية الوطن واستقلاله توصلت إلى اقتناع راسخ بأن علينا وفي مقدورنا أن نصوغ مصيرنا بجهودنا نحن. كان نضالنا قاسياً ومعقداً. كان علينا أن نحل كل شيء بأنفسنا وأن نستخدم أدمغتنا لصيانة خطوط الكفاح، وطرائقه أيضاً».
تقوم العقيدة السياسية لكوريا الشمالية كما صاغها كيم على الاستقلال السياسي التام في السياسة الداخلية والخارجية، والاكتفاء الذاتي في الاقتصاد، والدفاع الذاتي عن الوطن، وهذا الأمر هو ما منح كوريا الديمقراطية (وكذلك كوبا بتجربتها الخاصة) القدرة على الصمود بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، على عكس الدول الاشتراكية التي كانت في حالة ركون على دعم السوفييت.
تقوم زوتشيه (العقيدة السياسية للدولة) على أساس أن أصحاب الثورة والبناء هم جماهير الشعب، وأنهم أيضاً القوة المحركة في الثورة والبناء، وبناءً على ذلك فإن المرء مسؤول عن مصيره وقادر على صوغ هذا المصير، انطلاقاً من الوضع الملموس في واقعه. وفي ذلك يقول كيم: «كان علينا منذ البدء أن نستخدم أدمغتنا نحن لكي نحدد نظامنا السياسي الذي من شأنه أن يخدم مصالح الطبقة العاملة وسائر الكادحين، والذي في وسعه أن يجمع شمل جماهير الشعب العريضة، ولكي نحدد السبيل لتنفيذ الإصلاحات الاجتماعية الديمقراطية التي تنسجم مع الظروف الخاصة لبلادنا. ذهبنا من أجل الإصلاح الزراعي إلى القرى الزراعية ومكثنا فيها أياماً مع الفلاحين، ونحن نبحث بدقة في طرائق الإصلاح الزراعي التي تكون مناسبة للوضع في ريفنا».
ويضيف: «بينت تجربتنا أن السعي لحل مشاكلنا على هذا النحو بما يناسب ظروف واقعنا هو أفضل بكثير من نقل الأشياء الأجنبية نقلاً آلياً. كما أن كفاحنا من بعد التحرر من أجل بناء الوطن الجديد أثبت هو الآخر صواب فكرنا (زوتشيه) وصلابة إيماننا بهذا الفكر».

الاعتماد التام على الشعب
تستند زوتشيه على الاعتماد التام على الجماهير الشعبية، باعتبارها صاحب الثورة والبناء؛ فعليها أن تسلك سلوك سادة الثورة والبناء. ويجد هذا السلوك التعبير عنه في موقف الاستقلال والإبداع. يرى كيم أن الثورة والبناء عملان يجريان في سبيل الجماهير الشعبية، وعملان يجب أن تقوم بهما الجماهير نفسها، وهذا يشترط إطلاق العنان للحماسة الثورية الشعبية وتشجيع الجماهير وإطلاق كوامن طاقاتها وإبداعها. ويأتي هنا دور المكون الثوري في التخطيط وتجميع الجماهير وتوجيه طاقاتها على نحو دقيق نحو تحقيق الأهداف المرجوة.
ارتكز هذا المبدأ لدى كيم إيل سونغ على قدرة المكون الثوري الكوري في حشد طاقات الشعب وتوجيه نشاطهم، أي حشد غالبية الجماهير صاحبة المصلحة من الثورة، وهو أهم ما في تنفيذ هذه العقيدة السياسية، فالاعتماد التام على النفس وعدم الاتكال على الآخرين، أصدقاء أو استعماريين واستغلاليين، يتطلب الاستفادة القصوى من كل الطاقات الموجودة في الوطن من قوى عاملة وثروات وكوادر علمية وفنية، وهو ما حققه الحزب الثوري في كوريا الديمقراطية.

الاستقلال والإبداع
يوضح كيم موقف الاستقلالية والإبداع بقوله: «يمكننا القول بأن الموقف الاستقلالي هو الموقف الأساسي الذي ينبغي لنا التزامه في الثورة والبناء، والموقف الإبداعي هو الطريقة الأساسية التي ينبغي لنا تطبيقها في تحويل المجتمع والطبيعة، والشيء الأهم في التزام الموقف الاستقلالي هو الثبات في ضمان الاستقلال في السياسة». وانطلاقاً من هذه الحاجة إلى الاستقلال السياسي فهو يُشدد على الاستقلال الاقتصادي والاكتفاء الذاتي والاعتماد التام على النفس، الذي يترتب عليه الموقف الدفاعي الذاتي في الدفاع عن الوطن.

الدفاع الذاتي
انطلاقاً من حقيقة تاريخية وهي: «طالما لايزال هناك معتدون إمبرياليون فإن الدولة التي لا تملك قوى دفاع ذاتية لحماية سيادتها من الأعداء الخارجيين والداخليين ليست في الواقع دولة مستقلة بشكل تام وذات سيادة»، انطلاقاً من هذه الحقيقة تشدد زوتشيه على الموقف الدفاعي الذاتي، على اعتبار أن «الدفاع الذاتي في الدفاع الوطني هو جوهر طبيعة الإنسان. على البلد أيضاً أن تكون لديه الوسيلة للدفاع عن نفسه. إن خط الدفاع الذاتي في الدفاع الوطني هو مطلب حتمي في دولة مستقلة ذات سيادة».
وقد استطاعت الثورة الكورية تجسيد هذا المبدأ وتطبيقه على نحو مميز من تصنيع الكلاشينكوف حتى السلاح النووي بشكل تراكمي تدرجي موضوعي وفي ظل تحديات اقتصادية اجتماعية وحصار وعقوبات دولية.

تحرير المجتمع من العمل المضني
ينبغي تطوير وسائل الإنتاج ومختلف الآلات لتأخذ العبء العضلي عن العمال الزراعيين والصناعيين والتحويليين في الورشات وغيرها من المعامل، وكذلك عن النساء في أنشطتهن الاقتصادية الريفية الاعتيادية وفي المهام المنزلية، عن طريق تطوير التكنيك أي التقنيات الحديثة التي تخفف عن الإنسان الجهد وتوفر له الوقت لتطوير جوانب شخصيته ثقافياً ورياضياً وفنياً، وكذلك في رفع معدلات الإنتاج الصناعي والزراعي.
فهناك مضمون اجتماعي من خلف التطور التكنيكي نقيض للتطور التكنيكي الرأسمالي الذي يهدف من ورائه الرأسماليون إلى إنتاج سلع بكلفة أقل من أجل ربحية أعلى. وفي ذلك يقول كيم: «إن البناء الاقتصادي والثورة التكنيكية لا ينبغي تصميمهما كهدف في ذاته، إنما ينبغي أن يكونا وسيلة لتوفير الحياة المثمرة للشعب، مالك الدولة».

الإنسان أولاً
«أساس زوتشيه أن الإنسان صاحب كل شيء، وأنه يقرر كل شيء، وإن إعادة تكوين الطبيعة والمجتمع هي أيضاً للإنسان، هي عمل يقوم به الإنسان، الإنسان أثمن ما في العالم، والإنسان هو أيضاً الأشد اقتداراً، وكل عملنا إنما هو في سبيل الناس ويتوقف نجاحه على كيف نقوم بالعمل معهم».

صمود ومعاناة
مازالت كوريا الديمقراطية تختط هذا النهج الاستقلالي متمسكة بعقيدة المؤسس كيم إيل سونغ، ولكن طبيعة الظروف الدولية والعدوانية الأمريكية المتصاعدة والحصار الغربي جعل التطور في كوريا الديمقراطية غير متوازن، فاحتياجات الدفاع جعلت الدولة تتوجه إلى تنمية العلوم والمعارف والقدرات العسكرية على حساب الإنتاج المدني، ولذلك فهي تعاني اقتصادياً واجتماعياً إلى حدٍّ ما، وليس كما يصوره الإعلام الغربي الذي يضخم المعاناة من أجل الضغط على الدولة للتخلي عن مشاريعها العسكرية النووية الدفاعية.

أترك تعليقاً

التعليقات