حكومة مصغرة لا تخمة وزارية
 

أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -

بين الواقع والإمكان فإن الرؤية الوطنية ممكن تنفيذها إذا ما تم تقويمها لتوافق معطيات الواقع وتحدث الأثر الإيجابي فيه، ومن هذه المسائل التي يُفترض أن تهتم بها القيادة السياسية في بناء الدولة، هو التخلص من تخمة الوزارات التي تتجاوز وزارات الصين الشعبية، والدولة الصناعية الثانية، وفي واقعنا اليمني شحيح الموارد المحاصر يبدو من غير الموضوعية أن تحتفظ الحكومة بهذا العدد المهول من الوزارات!
إن الحكومة المصغرة هي الأكثر ملاءمة لواقعنا اليمني الراهن، خاصة في وضع الحرب والحصار، فمختلف العوامل التي تتطلب قيام حكومة مصغرة تنطبق على واقعنا، وهي: حالة الحروب، وتسمى حكومة حرب توجه فيها الموارد نحو الجبهة، حالة الكوارث الطبيعية، حالة الفترات الانتقالية وقبل الوصول إلى توافق وطني عام، حالة تحرير جزء من الوطن من الاحتلال ومباشرة السيادة عليه. 
الحكومات المصغرة تكون عادة مُشكلة من طرف واحد، وهي لا تنسجم مع الفهم الانتهازي التحاصصي لمبدأ توسيع المشاركة السياسية واستيعاب الأطراف، وتقوم على مبدأ الكفاءة والخبرة سواء تشكلت من طرف أو طرفين وأكثر.
الحكومات المصغرة أو حكومات الحرب ومرحلة ما بعد الحرب مباشرة في التجربة السوفياتية والتجربة الفيتنامية وكوريا الشمالية، جعلت من تنمية الإنتاج الزراعي الهدف الأول، حيث إنه لا يحتاج مواد خام أجنبية ولا قروضاً أجنبية، والعنصر الأساسي فيه هو الأرض الحرة. 
تتطلب الحكومة المُصغرة إنفاذاً للقانون والإرادة الثورية في التغيير ومكافحة الفساد والاصطدام بقوى النفوذ الإدارية، وهي بذلك تهدد الاستقرار السياسي، إلَّا أنها معركة لا بد منها، فاستفزاز الفاسدين والقوى الحليفة يهون إذا ما تمت تلبية مصالح جماهير الشعب الواسعة. 
إن ما يجعل من الحكومة المصغرة ضرورة هي حقيقة أنه من غير الممكن إدارة المرحلة الراهنة بالهياكل الإدارية والقانونية المعمول بها في الفترة السابقة للعدوان، فتلك الهياكل الإدارية والقانونية والتخمة الوزارية هي أحد أسباب فشل الحكومات السابقة، وستكون فاشلة بشكل أكبر في مواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الكثيرة المتجددة، التي نتجت عن تطورات العدوان على اليمن.
تتطلب مجريات الأزمة حضوراً حكومياً مكثفاً، ومرونة وسرعة في اتخاذ القرارات، ومع تشكيل حكومة مصغرة ستكون هناك فرصة لاجتماعات شبه يومية، وتقليص كبير للحلقات التي يمر بها القرار الحكومي، بحيث تنتفي الحاجة مع الحكومة المصغرة لكل اللجان الحكومية المشكلة على مستوى الوزراء، الدائمة منها والمؤقتة. ويدرك العاملون في مؤسسات الدولة حجم الهدر الحاصل في الوقت والجهود والإمكانات جراء الآلية المتبعة في عمل تلك اللجان، فضلاً عن العرقلة الواضحة للعديد من المشروعات والتوجهات الحكومية.
إن تشكيل حكومة مصغرة يعني إلزام الوزراء بتحمل المسؤولية وعدم رميها إلى ملعب اللجان ورئاسة مجلس الوزراء، وستعود فائدة الحكومة المصغرة على الأداء الحكومي وطريقة معالجة الملفات والقضايا من قبل الوزير ذاته، لتتفرغ رئاسة الوزراء كرئيس مجلس الوزراء وكمؤسسة لرسم السياسات والاستراتيجيات، والتدخل "الجراحي" لمعالجة بعض "الاستعصاءات" وفتح أفق الحل، لا الغوص في التفاصيل لسد النقص الحاصل في أداء هذا الوزير أو تلك الوزارة.
إن تشكيل حكومة مصغرة يعني تجاوز إشكالية المراسلات بين الوزارات، سواء المعنية بمجال عمل واحد، أو التي يتطلب عملها تعاوناً كبيراً مع وزارات بعينها، وهي المراسلات التي تأخذ حيزاً واسعاً من الزمن، وغالباً ما يكون ذلك على حساب إنجاز الأعمال. فإعادة هيكلة بعض الوزارات وتقليص عدد الوزراء سيضمن تسريعاً في اتخاذ القرارات وحسماً مباشراً لقضايا وملفات عدة.
عندما نكون أمام خيار حكومة مصغرة، فمن دون شك الخيارات ستكون مختلفة، ومعايير انتقاء الوزراء ستكون متشددة وقائمة على أن الأفضلية هي للكفاءات والخبرات والقيادات صاحبة التجربة، وحتى الجهات التي ستتقدم بترشيحاتها لن تكون متساهلة كما يحدث أحياناً، لأنها ستكون في موضع المساءلة والمحاسبة، ففي هذا الخيار لا مجال للتجريب، أو مكافأة أحد، أو تمرير مصالح ضيقة.
في الأربعينيات من القرن الماضي بعد انتصار الثورة في شمال فيتنام بعد طرد اليابانيين، شكلوا حكومة مصغرة تحت شعار كل شيء للجبهة كل شيء للنصر، من مهامها توجيه الموارد تجاه الجبهة ودعم العسكر وتنمية الموارد الزراعية والتعليمية بشكل رئيسي، إضافة الى توحيد المليشيات العسكرية المقاومة في جيش نظامي وربطها بالحزب الشيوعي القائد للثورة. 
وفي نموذج الثورة البلشفية الروسية 1917م، شكلت حكومة واسعة في بداية الأمر، ودخلت مباشرة في تنفيذ الرؤى والمظاهر الاشتراكية في الاقتصاد والتوزيع الاشتراكي، لمدة سنة ونصف، ففشلت، فتم التراجع عن مهمة التوزيع الاشتراكي وحصر التزامات الحكومة في مهام أخف، وهي حفظ استقرار سعر الروبل، التوجه بشكل أساسي لدعم الفلاحين والعمل الزراعي بعد الخروج من المجاعة التي ضربت البلاد أثناء الحرب الأهلية، باعتبار الفلاحين القوة الرئيسية في الثورة والحرب الشعبية ضد الجيش الأبيض والسند الأول للحكومة السوفياتية، والتوقف عن إنفاق الأموال في دعم الصناعة الكبيرة التي تتطلب قروضاً أجنبية وإنفاق ما هو موجود من مال في دعم الصناعة الخفيفة، وتخفيض الميزانية، واختصار أجهزة الدولة، وتحقيق أشد الحساب والرقابة الصارمة في كل مكان، وجعل العمل والإنتاج جماعياً، وتنظيم الإنتاج الكبير على النطاق الوطني في الأراضي والمشروعات التابعة للدولة.

أترك تعليقاً

التعليقات