أنس القاضي

أنس القـاضي / لا ميديا -
شهدت حكومة عدن العميلة خلال المدة من 14 حتى 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2025م سلسلة من التحركات السياسية والاقتصادية والأمنية المكثفة (في مرحلة ما بعد حرب غزة) جاءت جميعها في سياق إعادة تأهيل هذه الحكومة كواجهة سياسية لمعسكر العدوان، وإطالة عمرها المؤسسي في ظل تراجع قدرتها على السيطرة الداخلية وخلافات "مجلس القيادة" وتزايد الاحتقان الشعبي في المحافظات المحتلة.
وتكشف الأنشطة المرصودة خلال هذه الفترة عن نمط من التحرك الموجّه خارجياً أكثر من كونه نابعاً من احتياجات داخلية حقيقية، إذ جاءت اللقاءات والاتفاقيات والزيارات متزامنة مع ضغوط مالية وإدارية متصاعدة من قبل السعودية وصندوق النقد الدولي، ومع تزايد الانخراط الأمريكي في ملف البحر الأحمر وخليج عدن.
في الوقت ذاته، سعت الحكومة العميلة إلى إظهار نفسها كحكومة "فاعلة" و"منفتحة على العالم"، غير أن مضمون هذه الأنشطة يعكس في جوهره استمرار الارتهان الكامل للمحاور الأجنبية، وانعدام القدرة على تحقيق أي استقلال سياسي أو اقتصادي فعلي.
تزامنت هذه التحركات مع تصاعد الخطاب العدواني ضد صنعاء، لا سيما بعد تزايد فعالية القوات المسلحة اليمنية في البحر الأحمر، حيث اتجهت حكومة عدن إلى تكثيف التحالفات البحرية والأمنية والدبلوماسية ضمن إطار واضح يرمي إلى إعادة تدويل البحر الأحمر تحت مظلة "حماية الملاحة الدولية"، وهي الذريعة التي يُعاد استخدامها لتبرير التواجد العسكري الأجنبي في الممرات اليمنية الاستراتيجية.
وتميزت هذه الفترة العديد من الأنشطة الرئيسية، وهي:

الملف الصومالي والتحركات البحرية الاستخبارية
برزت اللقاءات المتكررة بين مسؤولي حكومة المرتزقة ونظرائهم الصوماليين بوصفها أحد أهم مؤشرات التحرك الإقليمي خلال الأسبوع الأول من الفترة. فبعد اجتماع وزير الدفاع العميل بالسفير الصومالي، عُقد لقاء آخر بين نائب وزير الخارجية ووزير الخارجية الصومالي، تناول ما سُمّي "التعاون في مكافحة التطرف".
غير أن القراءة التحليلية لهذه اللقاءات تكشف عن أهداف مغايرة، إذ تتقاطع مع التوجه (الأمريكي -الخليجي)، ومحاولته لاستخدام الأراضي الصومالية قاعدة استخبارية بحرية لمراقبة التحركات اليمنية في البحر الأحمر وخليج عدن.
تُظهر هذه الاتصالات أن العدوان يسعى إلى بناء الضفة المقابلة من البحر تحت إشرافه، بغية تقويض الحضور اليمني المتنامي في الضفة (الآسيوية -الأفريقية) للبحر الأحمر. هذه المقاربة تعبّر عن قلق (غربي -خليجي) متزايد من تصاعد القدرات البحرية اليمنية، ونجاح صنعاء في فرض معادلة ردع متكاملة غيّرت التوازن البحري في المنطقة.

الاتفاق التجاري مع الصين
شهدت الفترة توقيع بروتوكول بين حكومة عدن والصين لتصدير المنتجات البحرية اليمنية، ورغم أن الاتفاق عُرض إعلامياً كنجاح اقتصادي يعزز التعاون مع بكين، فإن مضمونه يظل محدوداً في الإطار الفني، ويخدم هدفاً مزدوجاً:
أولاً: إظهار حكومة عدن كحكومة معترف بها دولياً، قادرة على توقيع اتفاقيات رسمية باسم "الجمهورية اليمنية".
وثانياً: إغراء الصين لدخول المحافظات اليمنية كمستثمر اقتصادي، في الوقت الذي تؤكد فيه حكومة المرتزقة أن اليمن حريصة على أن تكون جزءا من مشروع "الحزام والطريق" الصيني.
وتُعد هذه الخطوة من جانب بكين محاولة لإثبات حضورها في اليمن لموازنة الحضور الإماراتي المنافس للصين ومشروعها الاستراتيجي في موانئ منطقة القرن الإفريقي.

صندوق النقد الدولي
برزت خلال الأسبوع ذاته حزمة جديدة من الشروط المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي والدول الغربية على حكومة المرتزقة، مقابل منح قروض مالية جديدة. وتضمنت هذه الشروط توحيد الرسوم الجمركية والضريبية، واعتماد سعر صرف السوق، وربط النظام المالي بالبنك المركزي في عدن، وإلزام الحكومة بالامتثال لمعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات تُقدَّم تحت عنوان "الإصلاح المالي"، إلا أنها عملياً تشكّل آلية رقابة دولية على السيادة الاقتصادية، وتحويل المؤسسات المالية اليمنية إلى أدوات مراقبة تخدم مصالح المانحين. كما أنها تسهم في توسيع الفجوة الاقتصادية بين صنعاء وعدن، وتُستخدم كورقة ضغط أمريكية لتجريم أي تدفق اقتصادي إلى صنعاء لا يخضع لقنوات العدوان المالية. وبذلك يتحوّل "الإصلاح الاقتصادي" إلى أداة استعمار مالي تضمن إبقاء القرار الاقتصادي اليمني مرتهناً للمؤسسات الدولية الغربية.

إعادة إنتاج الصورة السياسية للواجهة العميلة
في 18 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، عقد رشاد العليمي اجتماعاً مع ما تُسمى "هيئة التشاور والمصالحة"، التي تمثل الواجهة "السلمية المدنية" لمعسكر المرتزقة، ويكشف سياقه السياسي والإعلامي أنه مجرد محاولة لترميم الصورة المهترئة لمجلس الخيانة أمام الداخل والخارج، فقد استغل العليمي الاجتماع للحديث عن التوافق والشراكة والالتزام باتفاق نقل السلطة.
يظهر من الخطاب المصاحب للاجتماع أنه موجّه إلى المانحين الغربيين أكثر من كونه موجهاً إلى الرأي العام المحلي؛ إذ ركز على تأكيد الالتزام بـ"مرجعيات المرحلة الانتقالية" ليُظهر أن حكومة عدن مستقرة وتقوم على أسس من الشراكة، وبالتالي موثوقة بما يؤهلها للحصول على قرض.
هذه الفجوة بين الخطاب والممارسة تعكس طبيعة حكومة عدن كأداة علاقات عامة أكثر من كونها سلطة حقيقية.

التمكين المالي والأمني السعودي
شهد يوم 19 تشرين الأول/ أكتوبر توقيع اتفاقيتين جديدتين بين السعودية وحكومة عدن، لتقديم دعم مالي مباشر وتمويل مشتقات نفطية، بهدف إيقاف موجة الغضب الشعبي المتصاعدة. كما وُقعت مذكرة تعاون بين وزارة الداخلية و"البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن"، تتضمن تدريباً وربطاً تقنياً مباشراً للأنظمة الأمنية بوزارة الداخلية السعودية.
تكشف هذه الاتفاقيات عن تجديد التبعية المالية والأمنية للسعودية؛ إذ تحولت حكومة عدن إلى جهاز إداري منفذ للسياسات السعودية، بينما تمثل المساعدات وسيلة لشراء الوقت والولاءات وتحقيق قدر من الاستقرار الاقتصادي بما يكفي لحماية الحكومة من السقوط وبالقدر الذي يجعلها دائمة الحاجة للرياض.

التحرك الدبلوماسي مع بكين وموسكو
برز نشاط دبلوماسي متزايد لحكومة عدن خلال 21-22 تشرين الأول/ أكتوبر، تمثل في لقاءات فرج البحسني بالسفير الصيني، وزيارة عيدروس الزبيدي إلى موسكو.
حصلت حكومة المرتزقة على "نية" صينية لدعم الشرطة بسيارات وأجهزة اتصال لاسلكي. من غير المرجح أن تقدم لهم أجهزة اتصالات متطورة تفيد في النشاط الاستخباراتي. وفي الصين يتم التعامل مع الشرطة بوصفها قوة مدنية لا عسكرية. ويُعد هذا الأمر -إن تحقق- أول دعم صيني ملموس للمرتزقة منذ العام 2015. وحتى الآن مصدر الخبر الوحيد هو ما رواه البحسني، ولم تصرح الصين بذلك رسمياً.
أما روسيا، فقد استقبلت الزبيدي بصفته مسؤول الملف الاقتصادي، وناقشت معه مجالات التعاون في الطاقة وغيرها. غير أن اللقاء -وفق المؤشرات التي تابعناها- لم يسفر عنه إلا وعود عامة، بالنظر إلى القيود الاقتصادية المفروضة على موسكو.
يتضح من هذين المسارين أن الصين وروسيا تمارسان سياسة "الانخراط الاقتصادي دون الانحياز السياسي"، وهو ما يصبّ عملياً في مصلحة العدوان؛ لأنه يمنح حكومة عدن هامشاً شكلياً للتحرك الدولي دون أن يغيّر واقعها التابع، وفي طبيعة الحال لا تستطيع أن تقطع شوطاً مع روسيا والصين يتجاوز المحاذير الأمريكية.

الحرب النفسية والتدويل الإعلامي
هذه التحركات رافقتها حملة إعلامية منسقة استهدفت تشويه صنعاء وتبرير عسكرة البحر الأحمر؛ فقد أصدر السفير الأمريكي في 19 تشرين الأول/ أكتوبر بياناً دعائياً وصف صنعاء بـ"المليشيا الحوثية الإرهابية المدعومة من إيران"، في إعادة إنتاج للخطاب الأمريكي القديم حول "احتجاز موظفي السفارة". كما زعمت وسائل الإعلام التابعة للمرتزقة ضبط سفينة إيرانية قرب باب المندب، وهي رواية تكرارية تهدف إلى إقناع واشنطن ولندن بجدوى استمرار الدعم العسكري، وإلى إظهار حكومة عدن كقوة أمنية "مكافحة للتهريب".

الاتجاهات العامة المستخلصة
تكشف الأنشطة مجتمعة ثلاثة اتجاهات رئيسية تحدد طبيعة المرحلة الراهنة لمعسكر العدوان في الجنوب:
1 - ترسيخ التبعية الاقتصادية والأمنية للسعودية، مع توزيع نسبي للأدوار مع الإمارات.
2 - تدويل ملف البحر الأحمر تحت ذريعة مكافحة التهريب والإرهاب، في محاولة لتقليص السيادة اليمنية وتبرير الوجود العسكري الأجنبي.
3 - محاولة تحسين الوضع الاقتصادي بالدعم السعودي، ومحاولة الحصول على قروض من صندوق النقد، وعلى دعم روسي صيني.

تقدير الموقف العام
تمثل الفترة 14-22 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، مرحلة من إعادة تنشيط أدوات الوكالة الأجنبية في المحافظات المحتلة عبر ثلاثية: التمويل السعودي، التوجيه الأمريكي، والانفتاح (الصيني - الروسي) المحدود؛ إلا أن هذه التحركات لم تغيّر في موازين القوى الداخلية أو في واقع التبعية، بل عمّقت الارتهان السياسي والاقتصادي لحكومة عدن العميلة.
يظل جوهر المشهد أن هذه الحكومة تُستخدم كأداة تنفيذية لسياسات العدوان، فيما يحتفظ القرار العسكري والسيادي الفعلي بمرجعيته في الرياض وأبوظبي.
أما داخلياً، فما تزال مؤشرات التذمر الشعبي وتراجع الخدمات والانقسام السياسي قائمة، ما يجعل هذه الحكومة فاقدة لأي شرعية شعبية حقيقية.

أترك تعليقاً

التعليقات